قال(ص) : أي والذي نفسي بيده و يا سلمان . وعندها يحج أغنياء أمتي للنزهة ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة . فعندها يكون أقوام يتفقهون لغير الله ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا .

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟

قال(ص) : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . ذلك إذا انتهكت المحارم ، واكتسبت المآثم وسلط الأشرار على الأخيار ويفشو الكذب و وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الأمة . ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكون السماوات : الأرجاس الأنجاس .

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟

قال : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . فعندها لا يخشى الغني على الفقير ، حتى أن السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في كفه شيئاً .

قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟

فقال : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . فعندها يتكلم الروبيضة .

فقال سلمان : ما الروبيضة ؟ يا رسول الله  ، فداك أبي وأمي .

قال (ص) : يتكلم في أمر العامة من لم يكت يتكلم (1) .. الحديث .

وروى الشيخ الصدوق فيمن لا يحضره الفقيه (2) عن الإصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين (ع) قال : سمعته يقول: يظهر في آخر الزمان واقتراب الساعة ، وهو شر الأزمنة ، نسوة كاشفات عاريات ، متبرجات من الدين ، داخلات في الفتن ، مائلات إلى الشهوات ، مسرعات إلى اللذات ، مستحلات للمحرمات ، في جهنم داخلات .
ـــــــــــــــــــــــ
(1)  
انظر أيضاً الروبيضة في سنن ابن ماجه ، جـ2 ، ص 1340 وغيره .
(2)   ص 247 ، جـ 3 ، وانظر منتخب الأثر ، ص 426 .

صفحة (271)

إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة ، وفيها المطول والمختصر . ويكفينا منها ما ذكرناه ... وهي لعمري بمجموعها الوثيقة التاريخية المهمة ، والوجه الصادق المخلص ، المطابق للقواعد والوجدان ، في الكشف عن تاريخ البشر خلال عصر الغيبة الكبرى .

ويتم الكلام في فهم هذه الأخبار وتحديد مداليلها في ضمن أمور :

الأمر الأول :

أننا لنشعر من سلمان الفارسي رضي الله عنه ـ في خبر ابن عباس ـ وهو يعيش المجتمع الفاضل العادل الذي يقوده النبي (ص) ويرعاه ... أننا لنشعر منه استغرابه وشدة عجبه من صفات الفسق والإنحراف التي يعلن النبي (ص) عن تحققها في آخر الزمان . ومن هنا نراه يكرر على النبي (ص) القول : وإن ذلك لكائن يا رسول الله . فيجيبه النبي (ص) مؤكداً أي والذي نفسي بيده .

كما أننا لنحس بكل وضوح الأسى الشديد الذي يتضمنه كلام النبي (ص) وهو يصف خروج الناس عن شريعته وعصيانهم لتعاليمه ، وتركهم للعدل الصحيح ، مما يسبب لديهم أسوأ الآثار . كيف لا ، والله تعالى يقول : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (1) .

والنبي (ص إذ يخطاب الناس بذلك ، ويطلعهم عليه ، لا يخص به صحابته وأهل عصره ـ باجتنابهم الخصال السيئة والإنحرافات المقيتة التي ذكرها رسول الله (ص) في بيانه .

إلا أن غرضه الأساسي والأهم هو مخاطبته الأجيال القادمة ، وعلى الأخص تلك الأجيال التي تتصف بهذه الصفات ، وتنحرف مثل هذه الإنحرافات ، حتى ينبهها عن غلفتها ويشعرها بواقعها ، ويتم الحجة عليها . ذلك التنبيه الذي يؤثر في وجدان عدد من الناس المخلصين ، التأثير الصالح المطلوب ، فيتأكد إخلاصهم وتقوى إرادتهم ويزداد شعورهم بالمسؤولية للتمهيد لليوم الموعود ، طبقاً للتخطيط الالهي الكبير .
ـــــــــــــــــــــــ
(1)  
الروم : 30 / 36 .

صفحة (272 )

الأمر الثاني :

أننا نفهم مما قلناه الآن : إن رواية ابن عباس بل جميع هذه الروايات تشارك في التخطيط الالهي من ناحية أسبابها ومن ناحية نتائجها .

أما من ناحية أسباب صدور هذه الرويات ، فباعتبار علم النبي (ص) والأئمة (ع) بالتخطيط الالهي ، وما سوف يقتضيه على طول الخط التاريخي الطويل . ومن ثم نراهم يخبرون بهذا الجانب من التخطيط ، كما أخبروا بجوانب أخرى ، في الأخبار السابقة كروايات التمحيص ... وغيرها .

وأما من ناحية نتائجها ، فلما تتوخاه هذه الأخبار من إتمام الحجة ، والتنبيه من الغفلة ، وإيجاد شرط الظهور بإعلاء درجة الإخلاص في الأجيال المعاصرة للانحراف .

الأمر الثالث :

إن بعض هذه الأخبار ، تكون قرينة مبينة بالنسبة إلى البعض الآخر . إذ بالرغم من أن جملة منها لا يتضح منها كون الانحراف المخبر به حاصلاً في عصر الغيبة الكبرى على التعيين . إلا أن خبر نور الإبصار وخبر إكمال الدين ، قرن تلك الحوادث بما قبل ظهور المهدي (ع) ومع اتحاد الحوادث نعرف أن المراد من جميع الأخبار هو ذلك .

كما أنه قرنت هذه الحوادث في خبر " الخرايج والجرايح " بما قبل ظهور الدجال ، فإذا علمنا بالقطع واليقين بأن ظهوره سابق على ظهور المهدي (ع) ،كما تدل عليه الروايات الآتية المروية من قبل الفريقين . إذن نفهم بوضوح أن هذه الحوادث سابقة أساساً على ظهور المهدي (ع) . وهو معنى حصولها في فترة الغيبة الكبرى ، كما هو واضح .

واقترانها بما قبل قيام الساعة ، في بعض هذه الأخبار ، لا يكون مضراً بما فهمناه ، باعتبار ما قلناه فيما سبق ، من أن السابق على الظهور سابق على قيام الساعة . وليس من الضروري أن تكون أشراط الساعة واقعة قبلها مباشرة .

وسيأتي التعرض إلى تفصيل ذلك في القسم الثالث من هذا التاريخ .

صفحة (273)

الأمر الرابع :

مقصود النبي (ص) والأئمة (ع) هو اطلاع الأمة على الانحراف الأساسي الذي يستفحل في المجتمع ، فيبتعد به عن العدل الإسلامي ، بكل تفاصيله ، بما فيه التعاليم الإلزامية والتوجيهات الإستحبابية والأخلاقية . فإن العدل الكامل لا يتحقق إلا باتباع كل التعاليم واجبها ومستحبها وعباديها وأخلاقيها . ويتحقق الانحراف بالخروج على أي منها .

 ومن ثم نسمع من هذه الأخبار و وقوع الإنحراف عن المستحبات ، كترك الصدفة المستحبة وتحلية المصاحف وزخرفة المساجد ، وإطالة المنارة فيها ، ونحو ذلك .

الأمر الخامس :

إن عدداً من الحوادث الواردة في هذه الروايات ، تتضمن أموراً يمكن أن تقع على وجه إسلامي صحيح ، كما يمكن أن تقع على وجه باطل منحرف . ونعرف بالطبع ـ من وقوعها في كلام النبي (ص) أو الإمام (ع) وهو بصدد تعداد الحوادث المنحرفة ، أنها منحرفة ، وواقعة على شكلها الباطل .

مثال ذلك : تشييد البناء ،فإنه إن وقع من الفرد بعد تطبيق كل الأنظمة المالية في الإسلام ،وعلى الوجه الشرعي الصحيح ، لم يكن فيه حزازة . بل قد يتضمن مصلحة عامة في كثير من الأحيان . ولكنه إن وقع على خلاف ذلك كان عصياناً وانحرافاً في نظر الإسلام .

الأمر السادس :

إن ما تتضمنه هذه الأخبار ، أمور راجحة وصحيحة شرعاً ، إلا أنها إذا اقترنت بسلوك منحرف أو اتجاه فاسد ، اكتسبت معنى منحرفاً سيئاً ،بمعنى أن مجموع فعل الفرد لا يكون محموداً ،بل يكون ممثلاً لحظ الانحراف لا محالة.

صفحة (274)

مثال ذلك : قوله : إذا ازدحمت الصفوف واختلفت القلوب . فإن ازدحام الصفوف للصلاة الجامعة أو لغرض آخر كالوعظ أو تشييع جنازة أو نحو ذلك، أمر مطلوب وراجح في الإسلام..ولكنه إذا افترن بتفرق القلوب وتشتت الأهواء والنوازع، لم يكن دالاً على قوة ولا على وعي وإرادة، ومن ثم يكون مذموماً مقيتاً.

ومثاله الآخر: إن الرجل يجفو والديه ويبر صديقه. فإن بر الصديق وإن كان أمراً عادلاً راجحاً على الأغلب، إلا أنه إذا اقترن بجفاء الوالدين دل على خبث النية وانحراف والاتجاه. ويدل على أن الصداقة لم تنعقد على أساس الإسلام بل على أساس المصالح الضيقة والأعمال المنحرفة، إذ لو لم يكن كذلك، لما جفا الفرد والديه.

وهكذا... قس على هذه الأمثلة ما سواها.

الأمر السابع:

يراد ببعض التعابير في هذه الأخبار معناها الكنائي أو الرمزي، لا المعنى الحقيقي  المفهوم من اللفظ لأول وهلة. ومعه لا حاجة إلى تخيل حدوث هذه الأمور بطريق إعجازي، بل يمكن أن يكون حدوثها طبيعياً اعتيادياً.

فمن ذلك قوله: لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب. فإن المراد هو التعبير عن دماثة الظاهر وخبث الباطن وشراسة الطبع. وهذا واضح.

ومن ذلك: قوله: يذاب قلب الؤمن في جوفه، كما يذاب الملح في الماء، لما يرى من المنكر، فلا يستطيع أن يغيره.

فإن المراد التعبير من شدة أسفه ووجده لما يرى من العصيان ومخالفة العدل الإلهيي، وهو غير قادر على رفعه أو تغييره، بسبب عمق ظروف الإنحراف.

ومن ذلك قوله: إن عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب يلون ( أي يحكمون ) أمتي.

فإن أفضل تفسير لذلك: هو المبادئ المادية التي جلبت إلى بلاد الإسلام من الغرب تارة ومن الشرق أخرى. ويمارس الحكام المنحرفون الحكم طبقاً لأحدهما أو لكليهما في بعض الأحيان.

صفحة (275)

والظاهر من التعبير الوارد في الرواية: اشتراك كلا الشيئين في ولاية الأمة. ولم يحدث ذلك في التاريخ إلا في السنوات المتأخرة التي عشناها ونعيشها، حين أصبح الحكام في شرقنا الإسلامي يمثلون الشرق الملحد والغرب المشرك معاص، ويعبرونهما معاً مثلاً أعلى قدوة تحتذي، لو قيست بمبادئ الإسلام وتعاليمه، في رأيهم الخاطئ.

ومن ذلك: قوله: يتكلم الرويبضة. فإن المراد به – كما فسره صلى الله عليه وآله في نفس الحديث – : كل رجل يتكلم في أمر العامة، لم يكن يتكلم قبل ذلك.

وإن أفضل فهم لهذه العبارة، هو هو أن يقال: أنه عاش المجتمع المسلم عدة قرون، لا يتكلم باسم العامة ولا يدير  شؤونهم إلا أشخاص صادرون عن الدين بشكل وآخر، كالخلفاء والقضاة والفقهاء. حتى ما إذا ورد تيار الحضارة الحديثة إلى العالم الإسلامي، أباح جماعة من المنحرفين لأنفسهم أن ينطقوا باسم العامة أو باسم الشعب وينظروا في أمره ويديروا شؤونه، من دون أن يكون لهم أي حق حقيقي سوى السيطرة التي اكتسبوها بالقوة والحديد والنار على الناس. وأصبحالتكلم باسم الشعب شعاراً راسخاً يقتنع به الكثيرون، بالرغم من أنه يمثل انحرافاً حقيقياً عن الإسلام الذي يوجب تكلم الحاكم باسم الله لا باسم الشعب.

ولعل التعبير بالروبيضة يشعرنا بوجود تيار رابض أو كامن بين أبناء الإسلام دهراص من الزمن، أنتج في نهايته هذه النتيجة.

وهذه أمر صحيح، بعد الذي نعرفه من التاريخ الحديث، من أن الاستعمار استطاع أولاً السيطرة الثقافية والعقائدية على عقول عدد كبير من أبناء هذه البلاد، مما أنتج في نهاية الخط، سطرتهم على الحكم وممارستهم الأساليب لكافرة في إدارة بلاد الإسلام. فكانت تلك السيطرة اعداداً كامناً لإيجاد هذا الحكم في نهاية المطاف.

وهذا يبرهن أيضاً على صحة ما في هذه الأخبار، مما قد تكلمنا عنه فيما سبق، من أن الأمراء يصبحون كفرة والوزراء فجرة وذوي الرأي فيهم فسقة.

صفحة (276)