المرحلة  الثالثة :
أن يكون الحكم كافراً في المبدأ والقانون والحاكم (1) .
وهو ما تحقق في فترات متقطعة في تاريخ المجتمع الإسلامي ، نتيجة لحملات الكفر عليه من التتار والمغول والصليبيين والإستعمار الأوروبي المباشر الحديث .

وقد تحققت في المرحلة الأولى فضلاً عن المراحل المتأخرة ، جميع تلك التنبؤات التي يجمعها ويمثلها الإنحراف عن الإسلام بقليل أو كثير . فكانت قلوبهم قلوب الشياطين تميل عواطفهم نحو الشر ، قد اتبعوا الأهواء أي المصالح الضيقة واستخفوا بالدماء اي استهانوا بالقتل ، فكان قتل الفرد بل المئات شيئاً هيناً بل مفخرة كبرى لفاعله . واصبح الحلم و (الفعو عند المقدرة ) ضعفاً ، والظلم والتنكيل فخراً ... وأصبح الأمراء وهم الحكام خلفاء كانوا أو ملوكاً أو رؤساء أم سلاطين ... أصبحوا فجرة ووزاررؤهم ظلمة وذوي الرأي منهم فسقة .

وقد كان الحكام في كل هذه المراحل الثلاث ، وخاصة الأخيرين منها ، يقربون أهل الكفر ، وهم المنحرفون المتزلفون للحكام ، ويباعدون أهل الخير والصلاح ، ممن يأنف عن أن يعطى الدنية من نفسه . وأما الرشوة فحدث عنها ولا حرج كما هو واضح للعيان . ولله في خلقه شؤون .

هذا كله في المجتمع الإسلامي الذي أسسه الرسول (ص) وتعاهده بالرعاية ، فأصبح ـ بعد ذلك ـ مبنياً على الخروج على كتابه وسنته وهداه . وهو المجتمع الذي تتحدث عنه هذه الروايات عادة . وأما الحكم في غير المجتمع الإسلامي ، فهو قائم على طول الخط على الكفر المحض وإن كان ولا زال يتسافل تدريجياً إلى المادية عقائدياً والتسيب أخلاقياً ، والضعف إقتصادياً ، في كبار الدول فضلاً عن صغارها . كما تشهد بذلك الأثار وتدل عليه الأخبار.
ــــــــــــــ

(1) 
وصيغته النظرية : أن يكون الحاكم كافراً اساساص والقانون وضعياً .

صفحة (259)

القسم الخامس :

أخبار التمحيص والإمتحان .

فإننا بعد أن عرفنا فلسفته وإندراجه كعنصر أساسي في التخطيط الالهي .. نريد أن يكون منا إطلاعة على عدد من الأخبار الدالة عليه .

أخرج ابو داود (1) وابن ماجه (2) بلفظ مقارب جداً ، عن رسول الله (ص) : كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي ، يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، فاختلفوا ، وكانوا هكذا ( وشبك بين أصابعه ) ... الحديث .

وروى الصدوق في إكمال الدين (3) والكليني في الكافي(4) عن أبي عبد الله الصادق (ع) : إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد يأس . ولا والله حتى تميزوا ، ولا والله لا يأتيكم حتى تمحصوا . لا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد .

وروى الصدوق أيضاً(5) عنه عليه السلام : كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم . يبرأ بعضكم من بعض . فعند ذلك تمحصون وتميزون وتغربلون ... الحديث .

وروى النعماني في الغيبة (6) والكليني في الكافي (7) عنه عليه السلام أيضاً أنه قال ك لا بد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا . وسيخرج من الغربال خلق كثير .

وروى النعماني (8) أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : والله لتميزن والله لتمحصن ، والله لتغربلن كما يغربل الزوان من القمح .
ـــــــــــــــــــ

(1)  
انظر السنن ، جـ2 ، ص 237 . (2)   انظر السنن ، جـ 2 ، ص 1307 . (3)   انظر الإكمال المخطوط .
(4)   انظر المصدر المخطوط .(5)   انظر الإكمال المخطوط .(6)   ص 108 .(7)   انظر المخطوط .(8)   ص 109 .

صفحه(260)

وفي الكافي (1) ، عن أبي عبد الله عليه السلام : إن أمير المؤمنين عليه السلام لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر وخطب بخطبة ذكرها ، يقول فيها : إلا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (ص) . والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ، حتى يصير أسفلكم ، وليسبقن سابقون كانوا قد قصروا ، وليقصرن سباقون كانوا قد سبقوا وروى النعماني أيضاً (2) بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال فيه : فوالذي نفسي بيده ما ترون ما تحبون حتى يتفل بعضكم في وجوه بعض ، وحتى يسمي بعضكم بعضاً كذابين ، وحتى لا يبقى منكم " أو قال : من شيعتي " كالكحل في العين أو كالملح في الطعام . وسأضرب لكم مثلاً ، هو مثل رجل كان له طعام فنقّاه وطيّبه ثم أدخله بيتاً وتركه فيه ما شاء الله . ثم عاد إليه فإذا هو قد أصابه السوس ، فأخرجه ونقاه وطيبه ، ثم أعاده إلى البيت فتركه ما شاء الله . ثم عاد إليه ، فإذا هو قد أصابته طائفة من السوس فأخرجه ونقّاه وطيّبه وأعاده . ولم يزل  كذلك حتى بقيت منه رزمة كرزمة الأندر لا يضره السوس شيئاً .

وكذلك أنتم تميزون حتى لا يبقى منك إلا عصابة لا يضرها الفتنة شيئاً .

والتمحيص هو التنقية وإبعاد الردئ ، والغربلة هي النخل بالغربال حتى تخرج الزوان ، وهو الحب الغريب عن الحنطة يكون على شكلها وليس منها .
وغربلة البشر تكون بقانون التمحيص الذي عرفناه . وغربالهم فيها هي الظروف الصعبة والظلم الذي يعيشه الفرد والمجتمع من ناحية والشهوات والمغريات والمصالح الضيقة ، من ناحية أخرى ."وسيخرج من الغربال خلق كثير" بمعنى أن أكثر البشر يتبعون الباطل وينحرفون مع الشهوات والمصالح أو مع الظالمين المنحرفين . فيصبحون" حثالة قد مرجت (3) عهودهم وأماناتهم " والمراد بها الدين والالتزام بالإسلام وما تستتبعه من خلق كريم وسلوك مستقيم .
ـــــــــــــ

(1)  
انظر المخطوط . (2)   ص 112. (3)   أي اضطربت والتبست وفسدت ، المنجد مادة مرج .

صفحة (261)

وتبقى في نتيجة التمحيص الطويل " عصابة لا تضرها الفتنة شيئاً " لأنهم يمثلون الحق صرفاً ، وينتمون إلى قسطاط الحق الذي لا كفر فيه ، كما سبق أن سمعنا من الأخبار .

وقد عرفنا أن قانون التمحيص عام للبشرية مرافق لها في عمرها الطويل . وقد نطق به التنزيل . قال الله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب (1) وقال عز وجل : ليميز الله الخبيث من الطيب ، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه فيجعله في نار جهنم وأولئك هم الخاسرون (2) .

وقال : وليمحصن الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين (3).

ولكن هذا القانون يكون أشد وآكد إذا اقترن بالإعداد لليوم الموعود ، إعداداً يمكن به حمل التبعة والشعور بالمسؤولية تجاه العالم كله .

ولعلنا نستطيع أن نفهم من قوله تعالى : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ... كيفية التمحيص وأسلوبه ، وذلك : إن التمحيص ليس للكشف والإظهار فقط أمام الآخرين أو أمام التاريخ ، وأن كان هذا هو جانبه الظاهر المنظور . وإنما يتضمن ـ في الحقيقة ـ تغييراً حقيقياً وتأثيراً جوهرياً في ذات الفرد يعلمه الله تعالى منه بعد وجوده وتحققه .

ويتضح ذلك من بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى :

أن للفرد العاقل المختار اتجاهات ووجهات نظر ، وله مواقف وآراء تجاه كل حادثة مما يمر به في حياته . وهوعلى الدوام يحدد مواقفه فعلاً وتركا وآراءه إيجاباً وسلباً ، صادراً صدرواً تلقائياً عن اتجاهاته ووجهات نظره العقائدية والعقلية والثقافية .فتتحدد مواقفه بتحديد إتجاهاته ،وتتغير بتغييره،لا محالة،تجاه كل حادث من حوادث الحياة .
ـــــــــــــــــــــ
(1)  
آل عمران 3 / 179 . (2)   الأنفال 8 / 37 . (3)   آل عمران 3 / 141 ـ 142 .

صفحة (262)

ويكون للحوادث المتغيرة المتطورة الأثر الكبير في تغيير وتطوير اتجاهات الفرد فضلاً عن مواقفه ... وبذلك يكسب الصغير خبرة والكبير حنكة والجاهل علماً ، كما هو واضح جداً لكل فرد عاقل يعيش في هذه الحياة .

وقد يزداد الأثر في هذا المقدار الاعتيادي ، فيما إذا كان الحادث أو مجموعة الحوادث ، ذات صيغة أساسية في حياة الفرد . ولكل فرد من الحوادث ما تكون أساسية في حياته . فقد تعمق الحوادث اتجاهه وترسخه وقد تضعفه وتضعضعه ، وقد تغير شكله وطريقه .  وبتغير الاتجاه تتغير المواقف بالطبع  . فيكاد يصبح الفرد فرداً آخر ، أو تسبغ على سلوكه تغيرات كبرى أو صغرى تختلف بإختلاف أهمية الحوادث . فقد يصبح الفرد المنحرف معتدلاً والمعتدل واعياً ، بل قد يصبح الواعي منحرفاً والمنحرف واعياً . وقد يصبح الجبان شجاعاً والشجاع جباناً والبخيل كريماً والكريم بخيلاً والكذاب صادقاً والصادق كذاباً ... وهكذا وهكذا .

هذا كله في الحوادث الفردية التي يصادفها الناس في الحياة . ومتى كانت الحوادث أوسع من الوجود الفردي وأكبر ، كان أثرها أعمق وأشمل على المجتمع كله ، فضلاً عن الفرد ، كالاتجاه العام للحاكمين سياسياً أو المتنفذين اقتصادياً أو إجتماعياً أو غير ذلك . وكالغزو أو الاستعمار الذي تتعرض له البلاد ، أو التدهور الإقتصادي التي يمر بها أو تمر به . فإن كل ذلك يؤثر في الأفراد بل في الشعب كله أثاراً بليغة ،قد يبلغ مدى تأثيره عمقاً واسعاً في الزمان والمكان .

ومن هنا بالذات و تنبثق فكرة التمحيص والإمتحان ، فإننا بعد أن نعرف : إن لكل واقعة في الإسلام حكماً معيناً ، ونعرف : إن لكل فر موقفاً معيناً تجاه كل حادثة .إذن فلا بد أن ينظر إلى مدى تطابق موقف الفرد مع حكم الإسلام. فإن كان منسجماً معه ، فهو ناجح في التمحيص ، وإن كان مختلفاً معه ، فهو فاشل وراسب لا محالة .

والحوادث المتعاقبة ، قد تصقل من عقيدة الفرد الدينية ، وقد تضعضعها ، بشكل متوقع أو غير متوقع ، فإن لكل فرد إعتيادي نوازعه الخيرة ونوازعه الشريرة ، واتجاهاته الخاصة . وقد تكون هذه الإتجاهات متميزة بسلوك إعتيادي معين ، فإذا طرأت حادثة معينة اضطر إلى الإستجابة لها بإتخاذ موقف من المواقف لا محالة .

صفحة (263)

واضطر إلى التفكير في حال نفسه وفيما هو مقتنع به ، ومن هنا قد يصل الفرد إلى لزوم اتخاذ موقف جديد ، وإعادة النظر فيما كان مقتنعاً به من التفكير ، وما كان يتخذه من مواقف .

وليس لاستجابات الأفراد وقراراتهم تجاه الحوادث ، ضابط معروف او قاعدة عامة معينة ... لكثرة العناصر والأسباب الداخلية والإجتماعية التي تؤثر فيه ، والتي تختلف بين فرد وآخر في هذا العالم الواسع .

ومن هنا يكتسب التمحيص أهميته ، فإنه قبل حدوث الحادثة ـ أية حادثة ـ تكون حالة الفرد من حيث اتجاهه ورد فعله وما سيتخذه من سلوك ، مجملة ذاتاً  وليس لها أي تعين واقعي . والحوادث وحدها هي التي تعين واقع اتجاهه الجديد ، ودرجة عقيدته وإيمانه ، كما تكشف لنا ولنفسه ايضاً ، هذا الاتجاه الجديد ومقتضياته المتمثلة في سلوكه الجديد الذي يتخذه .

فإذا كان للأفراد اتجاهات على الدوام وكانت الحوادث تحدث باستمرار ،وكان لهم تجاهها ردود فعل وآراء ومواقف، إذن يكون التمحيص والامتحان مستمراً باستمرار الحياة البشرية .

ومن هنا نرى أن التمحيص كلما اكتسب أهمية أكبر في التخطيط الالهي ، كما هو كذلك خلال عصر الغيبة الكبرى .. شاء الله تعالى أن يعرض الأفراد لحوادث أعقد وأصعب ، حتى يكون اتخاذهم للمواقف الجديدة حاسماً وأكيداً ، ليتضح ما إذا كانت مواقفهم منسجمة مع تعاليم الإسلام أو لا .

المقدمة الثانية :

وهي تتعلق بفهم الآية الكريمة .. وذلك أن هناك فرقاً في علم الله تعالى منم حيث متعلقه لا من  حيث ذاته بين حال ما قبل وجود الشيء في الخارج وبين ما بعد وجوده . فعلمه عز وجل بالشيء قبل وجوده : أنه سيوجد وعلمه به بعده : أنه قد وجد . وتحقيق ذلك والبرهنة عليه مفصلاً موكول إلى مباحث الفلسفة الإسلامية .

إذا تمت هاتان المقدمتان استطعنا أن نعلم المراد من الآية الكريمة : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين .

صفحة (264)