وليس فيهم أي شخص يشير إلى موته . وكيف يستطيعون الأخذ بهذا الرأي ، بعد الذي عرفناه مفصلاً في تاريخ الغيبة الصغرى ، من اختفاء المهدي (ع) عن أكثر قواعده الشعبية فضلاً عن غيرها . ومن هنا تكون الأخبار عنه في مثل هذه التواريخ أخباراً منقطعة ، بل مع اليأس من حصول أي اطلاع على شيء ....

فكيف يستطيعون أن يدعوا موته تاريخياً ، إلا بنحو التزوير . ومن هنا كفوا عن التصريح بذلك ، كما هو واضح لمن يراجع تلك المصادر .

وأما المتأخرون ، كالسفاريني المولود عام 1114 هـ(1) ، فهم عيال على المتقدمين ، وليس لهم أن يأتوا بخبر جديد . ولا يؤخذ من قولهم ما عارض أقوال المتقدمين ، كما هو واضح ، بل تكون أقوال المتقدمين أولى بالترجيح. إذن فالسفاريني أوأي شخص آخر مثله ، يتحمل مسؤولية كلامه وحده .

وأما استيلاء جعفر الكذاب على ارث الإمام العسكري (ع) فلم يكن عن استحقاق ، بعد وجود الوارث الشرعي . وقد عرفنا تفاصيل ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى أيضاً ، فراجع .

القسم الثاني :

من القائلين بموت المهدي : من يدعي ظهور المهدي وانتهاء حركته . وهم أتباع مدعي المهدوية في التاريخ ، الذين قاموا بالسيف وماتوا أو قتلوا ، ولم يبق لأصحابهم مهدي منتظر ، بعد ذلك .

إلا أن مثل هؤلاء الناس ينقرضون بعد موت صاحبهم بمدة غيرة طويلة ، إذ  يعجزون عن تزريق إعتقادهم إلى الأجيال ، اللاحقة لهم ، بعد إتضاح أكذوبة ادعاء المهدوية بدليل وجداني صريح ، وهو أن هذا المدعي مات ولم يستطع أن يفتح العالم ولا يقيم حكم الله العادل على البشر أجمعين . ونحن ـ وكل مسلم ـ لا نعنى من المهدي إلا الشخص الذي يفعل ذلك . وحيث أن هذا المدعي لم يصل إلى هذه النتيجة طيلة حياته ، إذن فهو ليس مهدياً بالقطع واليقين .
ـــــــــــ
(1)  
انظر ملحق الجزء الأول من كتابة ، ص1

صفحة (255)

القول الثالث :

مما دلت عليه الروايات : هو القول بأنه قتل أو صلب . ولم نجد من يقول بذلك ، غير ما يمكن أن يدعيه أصحاب مدعي المهدوية ، فيما إذا قتل صاحبهم أو صلب ، فيقولون : صلب المهدي أو أنه قتل . يعنون بذلك صاحبهم .

القول الرابع :

التشكيك أنه بأي واد سلك .

فإن كان المراد به الاختفاء وجهالة مكان المهدي (ع) حال غيبته ، فهو أمر واضح في ذهن كل قائل بالغيبة . إلا أن هذا المعنى خلاف ظاهر الروايات السابقة التي تقول : مات أ هلك وبأي واد سلك . بحيث يكون المراد موته في بعض الوديان والبراري .

ولم نطلع على من يقول بهذا القول أو يحتمله . على أنه قول في غاية الغرابة ، فإن من يعتقد بغيبة المهدي (ع) إنما يعتقد بها ناشئة بإرادة الله تعالى وحاصلة بقدرته وتخطيطه . فكما أن الله حفظه خلال المدة السابقة ، أياً كان مقدارها ، فهو كفيل بأن يحفظه خلال المدة الآتية ، أياً كان مقدارها . وبصونه من كل العاهات والآفات والبليات ، تمهيداً لقيامه في اليوم الموعود لتنفيذ ، الغرض الالهي الكبير .

ولعلي هذين القولين الأخيرين ، مما سوف يظهر في مسقتبل السنوات ، وخاصة لو تطاولت الغيبة مئات أخرى أو آلاف أخرى من السنين .

القسم الرابع :

ما دل على انحراف الحكام وفسقهم وخروج تصرفاتهم وحكمهم عن تعاليم الإسلام ، في البلاد الإسلامية .

وأوضح ما ورد في ذلك وأكثرها صراحة ، ما أخرجه مسلم في صحيحه (1) بإسناده إلى النبي (ص) أنه قال : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيها رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس .
ــــــــــــــــ

(1)  
جـ 6 ، ص 20 .

صفحة (256)

وأخرج أيضاً (1) أنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ... الحديث .

وروى الصدوق في الاكمال (2) حديثاً عن رسول الله (ص) عن الله عز وجل في جواب عن السؤال وقت ظهور المهدي (ع) قال : فأوحى الله عز وجل إلى يكون ذلك إذا رفع العلم وظهر الجهل ... إلى أن قال : وصار الأمراء كفرة وأولياؤهم فجرة وأعوانهم ظلمة وذوي الرأي منهم فسقة .

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (ع)(3) في حديث كالذي سبقه يقول فيه :

وابتعوا الأهواء واستخفوا الدماء وكان الحلم ضعفاً والظلم فخراً ، وكان الأمراء فجرة والوزراء ظلمة .... الحديث .

وفي حديث آخر (4) عن أبي عبد الله (ع) : ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير ، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم ، ورأيت الولاية قيالة لما زاد .

وهذا هو الموافق للوجدان ، وللقواعد العامة ، ولمقتضى التمحيص الإلهي . أما موافقته للقواعد العامة والتمحيص الالهي ، فباعتبار أمرين مقترنين :

الأمر الأول :

أن الحكام يكونون ـ في العادة ـ من أبناء المجتمع المنحرف ، ومن نتائج تربيته . إذ يكونون منذ نعومة أظفارهم معتادين على الإبتعاد عن الدين وعصيان أحكامه ، كأي فرد ناشئ على هذه التربية . ومن ثم نجدهم يصدرون تلقائياً وبإقتناع عما اعتادوا وألفوه ، وإن غيروا في أسلوب الإنحراف وطوروه .

ومن ثم يكون من الصعب أن نتصور الفرد المنحرف ابن المجتمع المنحرف ، حاكماً بالحق والعدل ، ومطبقاً لأحكام الإسلام . بل يكون فسق الحكام والوزراء نتيجة طبيعية لإنحراف المجتمع وفساده .
ــــــــــــ

 (1)  
نفس الجزء ، ص 17 . (2)   انظر المصدر المخطوط . (3)   منتخب الأثر ، ص 427 عن الخرايج والجرايح .
 (4)
  
نفس المصدر ، ص 429 .

صفحة (257)

الأمر الثاني :

إن انحراف الحكام ، يشارك ـ لا محالة ـ في زيادة الظلم والتعسف في الناس ومطاردة الحق وأهله ، فيكون ذلك محكاً آخر لتمحيص أشد وامتحان أصعب .... كما هو مقتضى التخطيط الالهي .

وأما موافقته للوجدان ، فللوضوح التاريخي القطعي ، بأن الحكم في البلاد الإسلامية ، ساد بعد الخلافة الأولى ضمن مراحل ثلاث :

المرحلة الأولى :

الحكم الإسلامي المنحرف ، المتمثل بـ ( الملك العضوض) الذي أخبر به الرسول (ص) وسار عليه الخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون (1) .

فإنهم بالرغم من توليهم زمام الحكم بسبب ديني ، ويكون المفروض فيهم تطبيق حكم الإسلام ، إلا أن ما مارسوه من الحكم كان مبنياً على المصلحة الذاتية والطمع بكراسي الحكم وتناسي المبدأ الإسلامي المقدس ، وقد استعرضنا صورة من ذلك ، في تاريخ الغيبة الصغرى . ورأينا أنه لم يختلف في ذلك شخص الخليفة والوزاء والقضاة والقواد ، وسائر الضالعين بركابهم .

المرحلة الثانية :

الحكم الكافر مبدئياً ، وإن كان الحاكم مسلماً بحسب الظاهر (2) . وهو الحكم الذي تعقب فترة الخلافة ، ولا زلنا نعيشه إلى حد الآن في أكثر بلاد الشام . وقد أسس على الأسس المجلوبة من مبادئ الحضارة الأوروبية المادية ، سواء منها الجانب الرأسمالي أو الجانب الإشتراكي ، أو غيرهما . وبذلك نبذت أحكام الإسلام تماماً ، وقام الحكم على أسس القوانين الوضعية البشرية .
ـــــــــــــــــــ

(1)    وصيغته النظرية : أن يكون الحاكم مسلماً فاسقاً يدعي بظاهر حالة تطبيق الإسلام .
(2)
  
 وصيغته النظرية : أن يكون الحاكم مسلماً فاسقاً يتوخى تطبيق القوانين الوضعية بصراحة .

صفحة (258)