وأما نوح عليه السلام ، فقد قضى المئات من السنين مرشداً واعظاً
، فلم يؤثر في
الناس أثراً محسوساً حتى شكا إلى الله تعالى قائلاً : ﴿ ربِّ إني دعوت قومي
ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلى فراراً . وإني كلما دعوتهم لتغقر لهم
جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكباراً
﴾(1)
. حتى اضطر إلى أن يدعو عليهم بالهلاك ، فاستجاب الله تعالى دعاءه وأغرقهم
بالطوفان . وليس هناك وضوح في النصوص التاريخية في تحديد مقدار ما استطاع نوح
عليه السلام اكتسابه من المؤمنين بعد الطوفان .
وأما إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ، فقد كان أكثر من سابقيه تأثيراً في
توجيه الناس واكتساب إيمانهم وثقتهم به . ولكنه مع ذلك لم يستطع الوصول بالأمة
إلى المستوى المطلوب في العدل المطلق . حبسنا من ذلك أنه في أول عهده ألقي في
النار ولم يوجد في المجتمع شخص معترض أو مستنكر ولو من الناحية الإنسانية
المحضة !... ثم أنه بعد فترة غير قليلة من نبوته ، وضع زوجته وولده في واد غير
ذي زرع ، ولمن يكن لديه شخص مخلص يضمه إليهما يدفع عنهما ألم الجوع والعطش وخوف
السباع والهوام . فاكتفى إبراهيم (ع) بالدعاء لهما وتركهما وذهب .
فكان الله تعالى حافظاً لهذه الأمانة التي أودعت عنده ، فجعل أفئدة من الناس
تهوي إليهم . ولولا ذلك لكانا من الهالكين .
وأما الامة التي بعث فيها موسى بن عمران عليه السلام ، فحدث عنها ولا حرج ، من
حيث التمرد على نبيها وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه دينها . وكان المنطق القائل
: ﴿ إذهب أنت وربك فقاتلا أنّا ههنا قاعدون
﴾(2)
. هو المسيطر على أذهانهم ومعنوياتهم .. فهم على غير استعداد أن يبذلوا أن شيء
في سبيل نبيهم وعقيدتهم .
وأما عبادتهم للعجل ردحاً من الزمن ، ومطالبتهم برؤية الله تعالى جهرة ،
ومراجعتهم في شأن البقرة التي أمروا بذبحها ، وغير ذلك من الحوادث ... فهي أوضح
من أن تذكر .
ــــــــــــــ
(1)
نوح 71
/ 5 ـ 7
(2)
المائدة
: 5 / 34 .
صفحة (220)
وأما المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، فحسبنا شاهداً على حال أمته ، أن
الحواريين ، وهم طلابه وخاصته واجهوه بهذا الكلام : " يا عيسى بن مريم ، هل
يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " تشكيك صريح في قدرة الله تعالى .
ومن ثم أجابهم : ﴿ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . قالوا : نريد أن نأكل منها
وتطمئن قلوبنا ونعلم إن قد صدقتنا ونكون علينا من الشاهدين
﴾(1)
. إذن فهم لم يطمئنوا به بعد ، ولم يعلموا بصدقه . فإذا كان هذا هو مستوى خاصته
وطلابه ، فكيف حال سائر أفراد الأمة والمجتمع .
إذن ، فلم يكن يوجد في الناس على طول التاريخ ، ذلك المستوى العظيم من الإخلاص
الذي يمكن به بناء العدل المطلق في اليوم الموعود ، وإذا كان هذا الشرط غير
متوفر ، فماذا ترى الأنبياء صانعين ، حين يجدون أممهم على هذا المستوى المنخفض
من الإخلاص ؟
كيف وقد عرفنا فيما سبق ، أن هذا الشرط غير متوفر إلى حد الآن ،وأن البشرية لا
زالت في طريق التربية ، لكي يتوفر في ربوعها في يوم من الأيام .
وأما بالنسبة إلى الشرط الآخر وهو علم الأمة أو البشرية بالأطروحة العادلة
الكاملة المأمول تطبيقها في اليوم الموعود ... فمن الواضح أن تلك الأطروحة لم
تكن ناجزة ،ولمن يكن البشر على مستوى فهمها على الإطلاق . ويمكن أن يتم بيان
ذلك ،باستعراض فترات التاريخ إجمالاً أيضاً .
أما الأنبياء السابقين على موسى بن عمران عليه السلام ، فلم يكن هدفهم إلا
ترسيخ العقيدة الالهية ، وتوضيحها بالتدريج ، من دون أن يكون لهم تعاليم
تشريعية كثيرة . حتى تكللت تلك الجهود بجهود إبراهيم الخليل عليه السلام الذي
أوضح عقيدة التوحيد بشكل مبرهن وصحيح . إذن فلم يكن هناك تشريع مهم فضلاً عن
افتراض وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي تتكفل التشريع لكل جوانب المجتمع .
ـــــــــــــــ
(1)
نفس
السورة : 122 ـ 113.
صفحة (221)
وأما الفترة التي تبدأ بموسى بن عمران عليه السلام وتنتهي ببعثة الرسول
الأعظم (ص) ... فلا شك أنها كانت فترة شرائع تفصيلية ، نزلت بها التوارة
والإنجيل عن الله عز وجل . ولكنها كانت شرائع تربوية لأجل الوصول والإعداد إلى
فهم البشرية للأطروحة الكاملة ، ولم تكن ممثلة لتلك الأطروحة نفسها .
ويمكن الاستدلال على ذلك بثلاثة أدلة :
الدليل الأول :
أننا كمسلمين ، نعلم بأن التشريعات السابقة على الإسلام ليست هي الاطروحة
الكاملة ، جزماً . لأن معنى الإيمان بالإسلام ، هو كونه ناسخاً للشرائع السابقة
عليه وملغياً لأحكامها عن مسؤولية البشر . فلو كانت إحدى تلك الشرائع هي
الأطروحة الكاملة المأمولة ، لوجب إبقاءها سارية المفعول إلى حين اليوم الموعود
، لكي يتربى الناس على تقبلها والتضحية في سبيلها ، على ما سوف نعرف بالنسبة
إلى الأطروحة الكاملة . فلو نسخت تلك الشريعة المفروضة لكان ذلك مخالفاً للغرض
الالهي المطلوب ، فيكون مستحيلاً . ولكنها نسخت فعلاً ، كما نعتقد نحن المسلمين
بالبرهان ، إذن فتلك الشرائع المنسوخة ليست هي تلك الأطروحة العادلة الكاملة
المأمولة .
الدليل الثاني :
أنه لا دليل على أن تلك الشرائع كاملة شاملة لكل جوانب المجتمع ، بحيث تصلح
لاستيعاب البشرية بالعدل الكامل . ولعل أوضح دليل على ذلك القول المشهور عن
المسيح عليه السلام : دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر . فإن إيكال ما لقيصر وهو
الحاكم الدنيوي لكي يمارس فيه سلطته وحكمه ، يعني أن الشريعة المسيحية لم تكن
لتستوعب الجانب القضائي والجنائي والاقتصادي للحياة ونحو ذلك . مما يضظر الميسح
إلى التصريح بلزوم إيكال ذلك إلى القانون الدنيوي الوضعي السائد ، لئلا تتشتت
أمور الناس وتتميع مصالحهم .
وهذا الدليل خاص بالمسيحيين وملزم لهم باعتبار اعتقادهم صحة نقل هذه العبارة عن
المسيح ، بعد أو وردت في الإنجيل الموجود في اليد (1) الذي هو
الصحيح عندهم .
ــــــــــــ
(1)
إنجيل
متى ، الإصحاح الثاني والعشرون / 22 .
صفحة
(222)
وأما نحن كمسلمين ،فلا نؤمن بكل ما ورد في الإنجيل السائد ، كما يبرهن عليه في
بحوث العقائد عادة . كما أننا لا نستطيع أن نؤكد نقص الشريعة الواقعية النازلة
على المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، وإن كان ذلك محتملاً على أي حال ، بحسب
المصالح الزمنية التي توخاها الله تعالى لخلقه في تلك الفترة من الزمن .
الدليل الثالث :
أنه لا دليل على أن تلك الشرائع عالمية وعامة لكل البشر ، إذ من الممكن القول ،
من وجهة نظر أصحاب هذه الديانات : أنها شرائع اقليمية خاصة ببني إسرائيل . ومن
هنا نرى كتب العهدين تؤكد على أهمية هذا العشب بالخصوص ، وأنه شعب الله المختار
. ومن هنا نرى اليهود إلى الآن لا يقبلون يهودية شخص لا يكون من بني إسرائيل ،
لاعتقادهم الراسخ أن اليهودية دين إسرائيلي على التعيين .
فإذا كانت تلك الشرائع على هذا الغرار ... فهي إذن ليست تلك الأطروحة الكاملة
الشاملة للبشرية جمعاء . بل تكون قاصرة بطبيعتها عن أن تحقق الغرض الالهي
الكبير .
وهذا الدليل باطل عندنا ، كمسلمين ، باعتبار الاحتمال ـ على أقل تقدير ـ بتجدد
الإقليمية في عصر منحرف متأخر عن عصور دعوتهم الأولى ، حتى أصبحت بعد ذلك من
العقائد الأساسية في دينهم . إلا أن هذا الدليل على أي حال ، ملزم لمن يعتقد
بالديانتين : اليهودية والنصرانية ، وبخاصة اليهود ، باعتبارهم أشد تطرفاً في
الإقليمية من المسيحيين .
وعلى أي حال ، فقد تبرهن عدم وجود الأطروحة الكاملة العادلة قبل الإسلام ،
وستأتي بعد قليل بعض الإيضاحات لذلك . إذن فلم يكن كلا الشرطين الاساسيين لتحقق
اليوم الموعود والعدل العالمي المطلق ، موجوداً . فكان من المتعذر أن يتصدى أي
واحد من الأنبياء لتولي القيادة الرائدة لتحقيق ذلك الغرض الكبير.
صفحة (223)
الجهة الثالثة :
التخطيط الالهي بعد الإسلام .
ونعني به ذلك الجزء من التخطيط الالهي الذي يبدأ بظهور الإسلام ، وينتهي باليوم
الموعود . وينبغي أن نرى موقف الإسلام من هذا التخطيط ، وموقف قادته منه
،وأثرهم فيه .
النقطة الأولى :
الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة ،المذخورة للتطبيق في اليوم الموعود .
يدلنا على ذلك : الادلة القطعية الدالة على أن الإسلام آخر الشرائع السماوية ،
وأنه لا نبي بعد نبي الإسلام وإن " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام
إلى يوم القيامة " . فلو كان ناقصاً لما حقق الغرض الالهي الكبير، ولوجب على
الله تعالى تحقيق غرضه المهم بإيجاد أطروحة أخرى كاملة ينزل بها نبي آخر . وهو
خلاف الدليل القطعي بأنه لا نبي بعد نبي الإسلام .
مضافاً إلى الأدلة القطعية الدالة على عالمية الدعوة الإسلامية واستيعابها لكل
المشاكل والأحكام ،وأنه " ما من واقعة إلا ولها حكم " ، مما يجعل لها الصلاحية
الكاملة ، لتكون هي الأطروحة العادلة في اليوم الموعود .
ومن الملحوظ بوضوح أن هذه الأدلة القطعية ، منطلقة من زاوية إسلامية ، وأما إذا
أردنا الإنطلاق من زوايا أخرى، فيجب البدء بإثبات صحة الإسلام وصدقه أساساً ،
وهذا موكل إلى محله من بحوث العقائد .
وقد يقول قائل : فلماذا لم تنزل تعاليم الإسلام قبل عصر نزولها ، لتكون هي
الأطروحة المتوفرة منذ العصر الأول .
وجواب ذلك متوفر فيما قلناه من قصور البشرية في الأزمنة السابقة على الإسلام عن
فهم الأطروحة الكاملة . وأن الأنبياء السابقين جاهدوا في تربية البشرية لجعلها
قابلة لهذا الفهم . ولا يمكن أن يرسل الله تعالى تلك الأطروحة لمن لا يفهمها
ولا يستطيع استيعابها ، لانها لا تنتج حينئذ أي أثر .
صفحة (224)
إذن فلا بد لنا الآن من إيضاح معنى قصور البشرية عن تلقي تعاليم الإسلام
في العصور السابقة عليه .
وفي الحق أن عدداً مما جاء به الإسلام من تعاليم ، كان متعذراً جداً أن يستوعب
البشر معناها يومئذ استيعاباً كافياً... إلى حد ستكون الدعوة إلى تلك الأحكام
منشأ للغرابة في ذلك العصر ، مما يجعل مجرد الإيمان بها صعباً فضلاً عن
استيعابها الدقيق ، فضلاً عن تطبيقها الشامل . وحسبنا في هذا الصدد استعراض
جوانب أربعة :
الجانب الأول :
إن مستوى العقيدة الالهية التي جاء بها الإسلام من التجريد والتوحيد الخالصين ،
لم يكن موجوداً بوضوح في الشرائع السابقة . وإنما كانت هذه العقيدة في تطور
مستمر ، في ألسنة الأنبياء على مرور الزمن ، إذ يعطي كل نبي من تلك العقيدة ما
يناسب المستوى الثقافي والفكري الذي وصلت إليه البشرية في خطها التربوي الطويل
.
وهذا واضح جداً لمن استعرض دعوات الأنبياء المتسلسلين . فنرى الأنبياء السابقين
على موسى بن عمران لا يكادون يذكرون من صفات الله تعالى إلا ما كان ظاهراً من
آثاره وأفعاله عز وجل . من أنه ﴿ يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال
وبنين ويجعل لكن جنات ويجعل لكن أنهاراً . ما لكن لا ترجون الله وقاراً ، وقد
خلقكم أطواراً. ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً
وجعل الشمس سراجاً
﴾(1)
.
إلا ما كان من محاولة إبراهيم الخليل عليه السلام من محاولة البرهنة على
التوحيد ، على شكل بسيط النتائج بالنسبة إلى ما جاء به الإسلام من صفات .
ثم أننا نجد اليهود الآن يؤمنون ببعض أشكال التجسيم ، ونجد المسيحيين يؤمنون
ببعض أنحاء التعدد . وهذه بالرغم من أنها عقائد باطلة نعلم باليقين أنها لم ترد
في شرائعهم وتعاليم أنبيائهم . إلا أنهم ، على أي حال ، لم يجدوا في ما بلغهم
عن أنبيائهم ما ينافي ذلك ، أو يكون دليلاً صريحاص على بطلانه . وإلا لم يكونوا
ــــــــــــــــ
(1)
نوح :
71 / 11 ـ 16 .
صفحة (225)