ليلتزموا بهذه العقائد بطبيعة الحال . ومعنى ذلك أن موسى وعيسى عليهما السلام لم يوضحا بصراحة التجرد الكامل والتوحيد المحض لله عز وجل ، مواكبة مع المستوى العقلي والثقافي للبشرية في تلك العصور .

الجانب الثاني :

إن فكرة الدعوة العالمية التي قام عليها الإسلام ، لم يكن ليسيغها المجتمع الذي كان يرزخ في عواطف قبلية وعنصرية وقومية ، لمدة عدة مئات من السنين .

ومن هنا جاءت فكرة " شعب الله المختار " واختصاص الدعوتين اليهودية والمسيحية في أنظار المؤمنين بها ببني إسرائيل دون سائل الناس .

الجانب الثالث :

إن فكرة الدولة النظامية التي جاء بها الإسلام ومارسها الرسول الأعظم (ص) ،وحاول تطبيقها من جاء بعده إلى الحكم من الخلفاء . أن هذه الفكرة لم يكن ليفهمها الناس قبل الإسلام ، بأي حال ، كيف وهم يعيشون الجو القبلي والعنصري ، حتى أن الملوكية في تلك العصور كالسلطة الفرعونية أو القيصرية ، لم تكن إلا توسيعاً لفكرة السلطة القبلية والإقطاع الذي يدعي لنفسه ملكية الأراضي والفلاحين جميعاً ، وهم يمثلون الأعم الأغلب من الشعب يومئذ.

ومن هنا لم يكن في الإمكان أن تتكفل الديانات السابقة بإيجاد النظام الإداري أو الحكومي ، بأي حال . وإنما كان الأنبياء وأوصياؤهم يضطلعون بقيادة شعوبهم بشكل فردي مع الحفاظ على السلطة الدنيوية في عصورهم .

الجانب الرابع :

أننا نجد في الإسلام دقة في فهم الأحكام وفي تنظيمها ، في العبادات والمعاملات والعقوبات والأخلاق ، ما لا يكاد يفقهها الناس السابقون ... كما يتجلى ذلك بوضوح لمن راجع الأحكام الإسلامية المعروضة في الكتاب الكريم والسنة الشريفة ، واطلع أيضاً على تفاصيل الأحكام المعروضة في التوراة والإنجيل ، وتوفر للمقارنة بينهما .

إذن ، فكيف تصلح الشرائع السابقة ، لأن تكون هي الأطروحة العادلة الكاملة ... وكيف يصلح أهل العصور الأولى لتعقل هذه الأطروحة المتمثلة بأحكام الإسلام . ومعه يتضح بجلاء أنه لم يكن في الإمكان نزول أحكام الإسلام قبل العصر الذي نزل فيه .

صفحة (226)

النقطة الثانية :

بُعث نبي الإسلام (ص) بالأطروحة التشريعية العادلة الكاملة ، بعد أن أصبحت البشرية في مستواها العقلي والثقافي العام قابلة لفهمها واستيعاب أحكامها ، لتكون هي الأطروحة المأمولة في اليوم الموعود .

ولكنه ـ مع شديد الأسف ـ لم يكن في الإمكان أن يتكفل التطبيق العالمي الموعود ، لعدم توفر الشرط الثاني من الشرطين الأساسين لوجود هذا التطبيق .... ولا زال هذا الشرط غير متوفر إلى حد الآن .

فبينما كان المانع بالنسبة إلى الأنبياء السابقين عن هذا التطبيق ، هو عدم توفر كلا الشرطين ... نجد أن المانع بالنسبة إلى نبي الإسلام هو عدم توفر شرط واحد منهما ، بعد أن تمت تربية البشرية على الشرط الآخر على أيدي الأنبياء السابقين .

ولسائل أن يقول : فلماذا تمت تربية البشرية على أحد الشرطين ولم تتم تربيتها على الشرط الآخر ؟ بالرغم من جهود الأنبياء في الخط التاريخي الطويل .

ويمكن الإنطلاق إلى الجواب من زاويتين :

الزاوية الأولى :

أن توفير الشرط الأول ، وهو إيجاد المستوى اللائق في البشرية من الناحية العقلية والثقافية لفهم العدل الكامل ... أسهل بكثير من توفير الشرط الثاني وهو الوصول بالبشرية إلى المستوى العالي من الإخلاص والتضحية .

فإن تربية الفكر والثقافة لا تواجه عادة من الموانع والعقبات ما تواجهه التربية الوجدانية من ذلك ، متمثلة في الشهوات والمصالح الخاصة ، وظروف الظلم والإغراء ، فمن الطبيعي أن تحتاج التربية الأولى إلى زمن أقصر بكثير من الزمن الذي تحتاجه التربية الثانية . ومن الطبيعي أن يكون البشر لدى أول نضجهم الفكري في التربية الأولى غير ناضجين وجدانياً في التربية الثانية ، لأن هذه التربية لم تكن قد آتت أكلها بعد ، وإنما تحتاج إلى توفير زمان آخر طويل حتى تتوفر نتائجها بوضوح .

صفحة ( 227)

ومن هنا أمكن وصول البشر إلى الحد الثقافي المطلوب ، فاستحقت عرض الأطروحة الكاملة عليها وإفهامها إياها ... على حين لم تكن قد وصلت إلى الحد المطلوب من الناحية الوجدانية ، لتستطيع تحمل القيادة العالمية بين يدي النبي (ص) .

الزاوية الثانية :

إن البشرية مهما كانت قد تطورت من الناحية الوجدانية ، على أيدي الأنبياء السابقين ... فإنه على أي حال غير كاف لإيجاد الأخلاص المطلوب الذي به يكون تحمل مسؤولية العدل العالمي الكامل في اليوم الموعود . باعتبار ضرورة أن تتربى البشرية على الأطروحة بعد نزولها ومعرفتها ، بما فيها من دقة وعمق . فأنه إذ يكون المطلوب هو تطبيق هذه الأطروحة ، يكون الشعور بالإخلاص نحو الهدف ككل ، ذلك الإخلاص الناتج من جهود الأنبياء السابقين .

فكان لا بد لأجل ضمان نجاح التطبيق في اليوم الموعود ، أن تمر البشرية بظروف معينة ، تكفل لها التربية على الإخلاص على الشكل الدقيق للأطروحة الكاملة المتمثلة بالإسلام . وقد قلنا أن الهدف الالهي الأسمى ، هو فوق كل الاعتبارات ، فيتعين على الأمة الإسلامية أن تعيش الظروف التي تربيها وتمحصها من جديد .

وبدأت الظروف الطارئة بالحدوث والتواتر و متمثلة في عدة أمور :

الأمر الأول :

انقطاع الوحي بموت رسول الإسلام (ص) .

الأمر الثاني :

انقطاع التطبيق الناجح للشريعة الكاملة ، بموت النبي (ص) أو بانتهاء الخلافة الأولى .

الأمر الثالث :

ابتناء الحكم في البلاد الإسلامية على أساس من المصالح السياسية الظالمة المنحرفة .

صفحة (228)

الأمر الرابع :

ضعف المستوى الأخلاقي لدى الناس بشكل عام ، وتقديمهم مصالحهم الشخصية على اتباع تعاليم دينهم سواء على الصعيد الفردي أو الإجتماعي .

ويكاد كل واحد من هذه الأمور ، فضلاً عن مجموعها ، أن يكون موجباً لياس الفرد العادي والشعور بالتحلل والابتعاد عن الإسلام .

ومن هنا كان الشخص محتاجاً في استمراره على إخلاصه وإيمانه ، إلى قوة الإرادة وشعور بالمسؤولية الإسلامية، أعلى من المستوى المطلوب . وكان الأشخاص الممثلين لهذا الاخلاص ، قد نجحوا في عملية التمحيص والاختبار الالهية ، بهذا المقدار .

إلا أن هذا المقدار غير كاف في إبجاد الإخلاص الذي يتطلبه القيام بمسؤولية اليوم الموعود ، فكان لا بد أن تمر الأمة بتمحيص ضخم وعملية غربلة حقيقية ، حتى ينكشف كل فرد على حقيقته ، فيفشل في هذا التمحيص كل شخص قابل للانحراف ، لأجل أي نقص في إيمانه أو عقيدته أو إخلاصه .

وكان هذا التمحيص الضخم متمثلاً بطرفين مهمين تمر بهما الأمة الإسلامية بل البشرية كلها إلى العصر الحاضر .

الظرف الأول :

غيبة الإمام المهدي عليه السلام ، تلك الغيبة التي توجب للغافل عن البرهان الصحيح ، الشك بل الإنكار .

الظرف الثاني :

تيار الردة عن الإسلام ، وأقصد به التيارات المعادية للإسلام ، والتي تحمل بين طياتها معاني الخروج عنه والتبري من عقيدته . بما فيها تيار التبشير المسيحي الاستعماري ، وتيار الحضارة الغربية المبني على التحلل الخلقي وانكار المثل العليا .

والتيارات المادية الصريحة كالشيوعية والوجودية وغيرها .... تلك التيارات التي استطاعت أن تصطاد من أمتنا الإسلامية ومن العالم كله ، ملايين الأفراد .

صفحة (229)

وتحت هذين الظرفين ، كان التمسك بالإخلاص العالي  ، عمل جهادي في غاية الصعوبة والتعقيد ، ويحتاج إلى مضاعفة الجهود في سبيل المحافظة على مستواه فضلاً عن الصعوبة وتكميله فكان " القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار "  وكان المخلصون على المستوى العالمي ، في غاية القلة والندرة بالنسبة إلى مجموع سكان العالم .... وإن كنا لو لاحظنا مراتب الإخلاص الثلاثة أو الأربعة السابقة ، فإن النسبة تتسع عن هذا المقدار الضيق بكثير .

ولا زالت البلايا والمحن تتضاعف ، وظروف التمحيص والاختبار الالهي تتعقد وتزداد ... حتى أصبح الفرد يقهر على ترك دينه والتمرد على تعاليم ربه ، بمختلف أساليب الخوف والترغيب . ولعل المستقبل ـ إن لم يأذن الله تعالى بالفرج والظهور ـ كفيل بأن نواجه أشكالاً من الخطر والبلاء على ديننا ودنيانا هي أهم وأصعب مما حصل إلى حد الآن . فليفهم كل مسلم موقفه ، وليلتمس درجة إيمانه ويشخص مقدار قابليته على الصمود ، قبل أن يسقط في هاوية الإنحراف . لكي يوطن نفسه على الصبر والجهاد على كل حال ليكون له فخر المشاركة في بناء العدل العالمي في اليوم الموعود .

وقد يخطر في الذهن : إن ما قلناه من أن ظروف الظلم دخيلة في التمحيص والاختبار الالهي ، يلزم منه أن يكون الله تعالى راضياً بوجود الظلم والانحراف ، وهذا خلاف الأدلة القطعية في الإسلام .

ويمكن الجواب على ذلك من زاويتين نذكر احداهما ونؤجل الأخرى إلى حين اتضاح مقدماتها في مستقبل البحث .

والزاوية التي نود الإنطلاق إليها الآن هي أن الأدلة القطعية في الإسلام قامت على أن الله تعالى لا يريد الظلم ، بمعنى أنه لا يجيزه تشريعاً ، فليس في شريعة الإسلام حكم ظالم ، وليس أي ظلم مما يقع يكون مجازاً من قبل الشريعة ، بل يتصف بالحرمة والشجب حتماً . إذ من الواضح أن الإسلام إنما شرع ليخرج للبشرية من ظلمات الظلم إلى نور العدل ، بل هو ـ كما عرفنا ـ يمثل العدل الكامل من جميع الجهاد ، بشكل لم يتحقق في أي تشريع آخر على مدى التاريخ .

وأما بحسب التدبير التكويني لله تعالى في مخلوقاته ، فمن الواضح الضروري أن الله تعالى سمح بوجود الظلم ، ولم  يسبب الأسباب إلى قمعه قهراً وعلى كل حال ، إذ لو كان الله تعالى لا يريد الظلم ـ بهذا المعنى ـ لما وجد الظلم على سطح الأرض .

صفحة (230)

إلا أن سماحته بوجود الظلم ، لا يعني قهر الظالمين على إيجاد الظلم ، بل الظلم يوجد باختيار الظالمين وبمحض إرادتهم ، بعد أن وفر الله تعالى لهم فرص الطاعة وهداهم النجدين وعرفهم حرمة الظلم من الناحية التشريعية . فانحرفوا باختيارهم وأوجدوا الظلم باختيارهم ، من دون أن يكون لله عز وجل أي تسبيب إلى إيجاده .

إذن فالظلم غير مراد لله تعالى ، لا تشريعاً لأنه حرّمه في شريعته ونهى الناس عنه ، ولا تكويناً ، لأنه عز وجل لم يقهر الناس عليه . وإنما غاية ما هناك أنه سمح من الناحية التكوينية بوجود الظلم في خليقته ناشئاً من اختيار الظالمين ، وذلك للتوصل إلى هدفين مهمين .

الهدف الأول :

المحافظة على الاختيار ونفي الجبر الذي قام البرهان على استحالته على الله عز وجل . فإنه لو قهر عباده على ترك الظلم لم يكن الاختيار متوفراً كما هو واضح .

الهدف الثاني:

إجراء قانون التمحيص والاختبار . الذي يفيد من الناحية الفردية، بالنسبة إلى كل فرد من البشرية على الإطلاق ﴿ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيّ عن بينة (1) . ويفيد من الناحية العامة باعتبار أن له أكبر الأثر في تحقق الهدف الأساسي من إيجاد الخليقة نفسها . فإن المجتمع الموعود ، لا يمكن أن يحدف ما لم تسبقه فترة من التمحيص لتوفير شرطه الثاني الذي عرفناه .

وفي ما يلي من البحوث ما يزيد ذلك جلاء ووضوحاً .
ـــــــــــــ

(1)    
الأنفال : 8 / 42 .

صفحة (231)

النقطة الثالثة :

كما شارك الأنبياء السابقون عليهم السلام في التبشير باليوم الموعود ، استمر نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وخلفاؤه المعصومون عليهم السلام وكثير من صحابته في هذا التبشير . وكان تبشيرهم أهم وأوسع . باعتبار أنهم يحملون إلى العالم نفس الأطروحة العادلة التي سوف تأخذ طريقها إلى التطبيق في اليوم الموعود . فهم أقرب إلى ذلك اليوم وألصق به من الأنبياء السابقين ... وأشد مسؤولية بالتمهيد له وإيجاد المقدمات المؤدية إليه .

فكان أن اضطلع النبي (ص) ومن بعده بتهيئة الذهنية العامة للأجيال ، عن ذلك بالتركيز على ثلاث قضايا مهمة :

القضية الأولى :

الأخبار بوجود الغرض الالهي  الكبير ، والتبشير بتحقق اليوم الموعود الذي يأخذ فيه العدل الكامل طريقه فيه إلى التطبيق . ويكفينا من ذلك أن القرآن الكريم نفسه شارك في هذا التبشير حين قال : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون (1) أو حين قال : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض .... الخ الآية (2) . أو حين قال : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله (3) إلى غير ذلك من الآيات .

القضية الثانية :

التأكيد على أن القائد الرائد لانجاز ذلك الغرض الكبير ، هو الإمام المهدي (ع) كما ورد في النصوص المتواترة عن النبي (ص) وهي أيضاً متواترة عمن بعده . ولإثبات هذا التواتر مجال آخر . وحسبنا أنها أخبار مروية ومعترف بصدقها وتواترها من قبل الفريقين .

وإنما كان هذا التأكيد لكي تكون الأمة على علم بمستقبل أمرها من ناحية ، ومطلعة على اسم قائدها العظيم من ناحية أخرى . فإنه لا ينبغي أن تفاجأ الأمة بالظهور من دون إخبار سابق . ولكي لا تكون هذه القيادة ممكنة الانتحال والتزوير ،ولو في حدود ضيقة ، من قبل أشخاص آخرين . على ما سنوضحه في الجهة الآتية إن شاء الله تعالى .
ـــــــــــــــــ

(1)  
الذاريات : 51 / 56 .  (2)   سورة النور : 24 / 55.  (3)   التوبة : 9 / 33 والفتح : 48 / 28 والصف :61 / 09.

صفحة (232)

القضية الثالثة :

الإخبار بما سيقع في هذا العالم من ظلم وفساد ، كما وردت بذلك الأعداد الضخمة من الأخبار ، على ما سنسمع في الفصل الآتي . وكان هذا الإخبار مشفوعاً بذكر التكليف الإسلامي وأسلوب العمل الواعي في هذه الظروف ... حتى يكون الفرد على بصيرة من أمره عارفاً بضرورة الصمود تجاه تيار الانحراف والفساد ، لكي يكتب له النجاح في التمحيص الإلهي ، فيكون من المخلصين الممحصين الذين يكون لهم شرف المشاركة في ترسيخ قواعد العدل العالمي في اليوم الموعود .

وأما الذي يسير مع تيار الإنحراف ، فلا يهمه ـ بطبيعة الحال ـ أن يفهم التكليف الإسلامي الواعي و ومعه يكون من الفاشلين في التمحيص والاختبار .

ومن هنا نستطيع أن نفهم بوضوح ، ارتباط كل هذه القضايا التي بُلغت إلى الأمة ، بالتخطيط الإلهي لليوم الموعود .... لتشارك في إعداد أكبر عدد ممكن من المخلصين الممحصين على طول الخط ، بتهيئة الذهنية العامة لهذه الحقائق وإقامة الحجة عليها ، حتى يكون الفرد المسلم على بينة من أمره وبصيرة من دينه ، فيختار سبيل الرشاد بين تيارات الإنحراف ، كما هو مطلوب .

النقطة الرابعة :

وقد رأينا المهدي (ع) نفسه في البحوث السابقة يشارك بتهيئة الذهنية العامة للأمة لليوم الموعود ، تلك التهيئة التي توفر له شروطه الأساسية . وذلك باتخاذ خطوات ثلاث :

الخطوة الأولى :

إقامة الحجة على وجوده بتكرار المقابلات مع عدد من الناس كبير نسبياً ، خلال الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى معاً. وبذلك يؤسس للمسلمين أساس الصمود ضد واجهة كبرى للشك في وجوده .

صفحة (233)