وهذه الدرجة هي التي تؤهل الفرد لأن يكون واحداً من القواعد الشعبية الصالحة
لدولة الحق في اليوم الموعود . أو أن يكون جندياً خلال الفتح العالمي في ذلك
اليوم .
الدرجة الثالثة :
الإخلاص الإقتضائي : وهو أن يكون الفرد محباً للحق والعدل الالهي في دخيلة نفسه
ومسايراً لظروف الظلم أو الإغراء إلى حد ما أيضاً .
فإننا نجد في كثير من الأفراد انفكاكاً بين العقيدة والسلوك . فبينما نجد
عقيدته صالحة نجد سلوكه منحرفاً نتيجة لاضطراره وظروفه الشاذة واحتياجه إلى
لقمة العيش . وهو في ذات الوقت من الممكن أن يكون مدركاً لمعنى الظلم وفظاعته ،
وللمسؤولية تجاه تعاليم الله العادلة . ولكنه يشعر بالقصور عن تطبيقها نتيجة
لظروف الضغط والظلم التي يعيشها . ومن ثم فهو يدفن عقيدته ووعيه في قلبه ويساير
الظلم والإغراء إلى بعض الخطوات .
ويمن في حق مثل هذا الفرد ، أنه بمجرد أن ترتفع ظروف الظلم ويبدأ التطبيق
العادل ... فإنه سوف ينطلق إخلاصه الاقتضائي الكامن ، بعد أن ارتفع عنه المانع
، ويكون له حركة فعالة في المشاركة والتعاون في ظروف التطبيق الجديد .
الدرجة الرابعة :
أن لا يوجد الإخلاص بأي درجة من درجاته السابقة . ولكن يكون الفرد قد شعر بوضوح
نتيجة لظروف التمحيص العالمي ، بفشل التجارب التي عشاتها المبادئ والفلسفات
التي ادعت حل مشاكل العالم وتذليل مصاعبه ونشر العدالة والرفاه في ربوعه . فإن
هذه المبادئ بعد أن تعيش التجربة والتطبيق ، وتتمخض عن نتائجها الرئيسية ، سوف
يبدو بوضوح للأعم الأغلب من البشر أنها لم تتمخض إلا عن الفساد والضياع نتيجة
لقصورها الذاتي ، كما سبق أن أشرنا ، وقد أضافت إلى مشكلات العالم لا أنها قد
ذللت منها شيئاً .
عندئذ ينبثق شعور خفي ، في اللاشعور ، بالحاجة العالمية الماسة إلى الحل الناجز
الذي ينقذ العالم من ورطته ويخرجه من وهدته ويوقظه من رقدته .
صفحة (214)
وهذا الحل ، وإن لم يكن ملتفتاً إليه بوضوح أو معروف بتفاصيله . ولكنه على أي
حال ، توقع نفسي غامض يمكن انطباقه على أول دعوة رئيسية جديدة تدعي حل مشاكل
العالم وتذليل مصاعبه . ومن هنا تفوز مثل هذه الدعوة بتأييد كل من يمثل هذه
الدرجة من نتائج ريثما كانت هذه الدعوة محتملة الصدق على أي حال .
فإذا كانت هذه الدعوة هي دعوة الحق ، في يومها الموعود ، فسيكون لهذا الجو
النفسي العالمي أثره الكبير في دعم التطبيق العادل ، في ذلك اليوم .
فهذه هي الدرجات الأربع التي يتمخض عنها التمحيص الالهي الكبير في عصر ما قبل
الظهور . والتي تشارك ، بشكل وآخر في بناء العدل في اليوم الموعود .
ونحن نستطيع أن نلاحظ بوضوح أن هذه الدرجات كلما ارتفعت قلَّ الأفراد المتصفون
بها من البشر ، وكلما نزلت كثر الأفراد المتصفون بها بطبيعة الحال . ومن هنا
كان المتصفون بالدرجة الأولى من الإخلاص قليلين في البشر . وهم الذي سبق أن
برهنا على أن الإمام المهدي (ع) يمكن أن لا يحتجب عنهم خلال غيبته الكبرى . كما
كان المتصفون بالدرجة الرابعة ، هم أكثر البشرية في العصر المباشر لما قبل
الظهور . وتختلف الدرجتان الثانية والثالثة فيما بين هذين الحدين من العدد .
ومن هنا نستطيع أن نقول لمن يوجه السؤال السابق: أن الدرجات الصالحة الناتجة عن
التمحيص الالهي تمثل بمجموعها عدداً كبيراً من البشر ، بل الأعم الإغلب منهم .
وليس العدد قليلاً كما تخيله السائل . وإنما العدد القليل منحصر بالدرجة العليا
من الإخلاص ، وهو مما لا يؤثر على التطبيق العادل الموعود شيئاً ، باعتبار أن
الأفراد الذي يمثلون هذه الدرجة ، سيكونون بالمقدار الكافي الذي يقومون خلاله
بمسؤولية القيادة الناجحة في اليوم الموعود . وليس من المتوقع من كل البشر أن
يكونوا قواداً ، بطبيعة الحال ! ....وعلى أي حال ، فقد اتضحت من هذه النقاط الثمان
، المناشئ الحقيقية للتخطيط
الالهي لهداية البشر وتحقيق العبادة التامة في ربوعهم . كما اتضح البرهان على
وجود هذا التخطيط ، حيث يحتاج الأمر إلى مقدمات طويلة وطبيعية غير اعجازية .
كما اتضحت جملة من ملامح هذا التخطيط ، وما يلعبه الظلم
والإنحراف الذي تعانيه البشرية على مدى التاريخ ، من دور في هذا التخطيط الالهي
الكبير .
صفحة (215)
وبقي علينا أن نعرف تفاصيل أعمق وأكثر عن هذا التخطيط ، خلال الجهات الآتية ،
شروعاً بما قبل الإسلام وانتهاء بالعصر الحاضر .
الجهة الثانية :
التخطيط الالهي قبل الإسلام .
والمراد به الجزء الذي يعود إلى الفترة السابقة على الإٍسلام من عمر الخليقة ،
منذ دخلت عهد الفهم والإدراك إلى حين بعثة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله .
وذلك : إن التخطيط الالهي الشامل لليوم الموعود ، بدأ بوجود الخليقة نفسها ،
لأنه يعبر عن أسلوب تحقيق الغرض الأساسي من إيجادها . إذن فقد كان هذا التخطيط
مستمراً قبل الإٍسلام وبقي مستمراً بعد الإسلام ، وسيبقى نافذاً إلى يوم يتحقق
به اليوم الموعود بتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة .
وينبغي أن ننطلق في الحديث عن ذلك ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
في مشاركة الأنبياء إجمالاً في هذا التخطيط .
وهو ما سبق أن حملنا عن ذلك فكرة مختصرة ، وينبغي لنا أن نحمل الآن فكرة
تفصيلية عن السر الأساسي لذلك:
إن البشرية في مبدأ أمرها لم يكن يتوفر لديها ، بطبيعة الحال ، الشرط الأول
والثاني ، السابقين ، من شرائط تطبيق العدل الكامل (1) . فهي لا
تعرف ما هو ما هو العدل الكامل ، ولا هي مخلصة له أو مستعدة للتضحية في سبيل
تطبيقه لو عرفته .
ـــــــــــــ
(1)
أما
الشرط الثالث وهو معرفة الثواب والعقاب الآخرويين فقد كان متوفراً بشكل وآخر في
دعوات الأنبياء . فالمهم إذن هو الحديث عن الشرطين الأولين .
صفحة (216)
فكان لا بد لها ـ كجزء من التخطيط ـ أن تمر بتربية طويلة الأمد من كلتا هاتين
الناحيتين . فكان أن تكفل الأنبياء هذه المهمة ، وهي تربية البشرية لتكون صالحة
لفهم العدل الكامل . فكان كل نبي يشارك مشاركة جزئية قليلة أو كثيرة في ذلك ،
سواء علم الناس ، بذلك في عصره أو جهلوه . لأن المهم هو تربيتهم الفكرية ، وليس
المهم الفاتهم بوضوح إلى هذا التخطيط .
وهذه التربية قد انتهت ، واستطاعت البشرية ـ في نهاية المطاف ـ أن توفر الشرط
الأول ، فأصبحت قابلة لفهم الأطروحة العادلة الكاملة ، فأرسل الله تعالى إليها
تلك الأطروحة متمثلة بالإسلام . وبذلك تحقق الشرط الأول .
ولم تستطع البشرية إلى حد الآن أن توفر الشرط الثاني وهو استعدادها للتضحية في
سبيل تطبيق العدل ، وهي على أي حال في طريق التربية على ذلك .
وكان كل نبي بطبيعة الحال ، بما فيهم نبي الإسلام (ص) يقرن تربيته الفكرية
للناس بالتربية على الشرط الثاني أيضاً بمعنى إيجاد الإخلاص والاستعداد للتضحية
في نفوس البشر . فكانت مشاركة الأنبياء في التربية الأولى متمثلة بما بلغوا من
أحكام ، وكانت مشاركتهم في التربية الثانية متمثلة بما قدموا من تضحيات ودماء .
إلا أن التربية الأولى أنتجت نتيجتها الكاملة ، على حين لم تنتج التربية
الثانية نتيجتها إلا في القليل من الناس . وذلك لمدى الضغط والإغراء الذي يوجهه
الناس نحو الإنحراف من داخل نفوسهم وخارجها ، على طول خط التاريخ، مما يجعل
الحق في أفواههم مراً وتحمل العدل عليهم صعباً .. وينتج في نهاية المطاف بطء
التربية على الإخلاص وصعوبتها .
النقطة الثانية :
لم يكن الأنبياء ليسكتوا عن تبليغ الناس ، بشكل وآخر ، بالغرض الأساسي من إيجاد
البشرية . متمثلاً بإعلامهم أن هناك يوماً يأتي في مستقبل الزمان يسود فيه
العدل الالهي المطلق ويرتفع فيه كل ظلم وجور . ولا زلنا نسمع صدى هذا التبليغ
متمثلاً باعتقاد عدد من الديانات السماوية بذلك وإيمانها به ، وإن اختلفت في
تسمية القائد الذي يتولى ذلك التطبيق الكبير .
صفحة (217)
ولكن حيث لم يكن هذا اليوم الموعود بقريب ، ولم يكن قد تحقق الشيء المهم
من شروطه .. لم يكن من اللازم إعطاء التفاصيل أكثر من هذا المقدار المجمل
القليل . ومن هنا نرى أن التبليغات السابقة على الإسلام لم تكن واضحة وكافية
لاجتثاث جذر الخلاف في ما تعتقده الديانات من تفاصيل اليوم الموعود .
ومعه فمن الممكن القول أن المقدار المشترك بين هذه الأديان من الاعتراف باليوم
الموعود ، أمر حق ناتج عن تبليغات الأنبياء عليهم السلام . وأما التفاصيل
المختلف بشأنها على مستوى هذه الديانات كتسمية القائد وغير ذلك، فهي أمور
مضافة غلى تلك التعاليم من قبل الفكر البشري المنفصل عن إلهام السماء .
ومن هنا نستطيع أن نفسر اتفاق الأديان على ذلك ، منسجماً مع الغرض الأصلي
لإيجاد الخليقة . ونجيب بذلك على ما يذكره بعض المستشرقين المغرضين ، من أن بعض
هذه الاديان عيال على البعض الآخر في ذلك و وأن الاعتقاد باليوم الموعود راجع
إلى بعض الأديان القديمة الموروثة ... وهو اعتقاد كاذب في رأي هؤلاء المغرضين .
بل هو اعتقاد صادق ، اتفقت عليه الأديان باعتبار سبب واحد هو الوحي الالهي .
وكلها تشير إلى أمر واحد هو الغرض الأساسي من إيجاد الخليقة ، الذي عرفنا أن
يكون من الطبيعي وجوده منذ ولادة البشرية ، وتبليغه إلى الناس من أول عهود
النبوات .
كما نستطيع بذلك أن نجيب على كلام آخر يقوله بعض المرجفين ، من أن الاعتقاد
باليوم الموعود ، ناشئ من شعور البشرية بالظلم وتوقانها إلى ارتفاعه وسيادة
العدل على الارض .
فإننا عرفنا السبب الحقيقي لوجود هذا الاعتقاد . ومن الواضح أن مجرد التوقان
إلى العدل لا يصلح سبباً له ، لأن الفرد أو المجتمع إذا أمل ارتفاع الظلم عنه ،
فإنما يود أن يحدث ذلك في الزمن المعاصر القريب ، لكي يستفيد منه بشكل وآخر .
وأما الاعتقاد بوجود اليوم الموعود في أجيال غير معاصرة فهذا مما لا يعود
بالمصلحة إلى أي فرد معين ، لكي نحتمل أنه ناشئ من ظروف الظلم والمصاعب . فضلاً
عما إذا اقترن بهذا الاعتقاد كون التقديم إليه لا يكون إلا بمرور البشرية
بالمشاكل والمظالم . كما نريد البرهنة عليه . فأنه في واقعه اعتقاد بزيادة
الظلم
والمشاكل على البشرية في أي جيل معاصر ،وليس توقاناً إلى العدل العاجل بأي شكل
من الأشكال .
صفحة (218)
ومن هنا انحصر السبب في وجود الاعتقاد القديم باليوم الموعود ، بتبليغ الأنبياء
الناشئ من إلهام السماء .
وإذا طبقنا ذلك على عقيدتنا في المهدي ، كما تم عليها البرهان الصحيح ، استطعنا
أن ندرك بسهولة ووضوح ، كيف أن المهدي (ع) هو القائد المذخور من قبل الله عز
وجل لتحقيق الغرض الأساسي من الخليقة ... وإن عدداً من الأنبياء السابقين قد
أخبروا عن ظهوره ، فضلاً عن نبي الإسلام (ص) الذي تواتر عنه النقل في ذلك .
وإنما كان الاختلاف في تسميته نتيجة لاختلاف اللغات ، أو للانحراف الناشئ عند
أهل الأديان بعد ذهاب أنبيائهم .
النقطة الثالثة :
لم يكن بالإمكان أن يتخذ أي نبي من الأنبياء موقف القائد للتطبيق الأساسي العام
لهداية البشر ، أويتكفل إيجاد اليوم الموعود . ولم يكن ذلك داخلاً في التخطيط
الالهي أصلاً . لعدم توفر أي من الشرطين الأساسيين السابقين :
أما بالنسبة إلى اشتراط أن تكون الأمة على مستوى الإخلاص والاستعداد للتضحية في
سبيل التطبيق العادل ... فعدم توفره في الأمم السابقة على الإسلام واضح جداً .
وحسبنا أن نستعرض النصوص الواردة في الأنبياء المشهورين ، لنعرف حال البشرية في
عصورهم وفي ما بين ذلك من الدهر . فإنه إذا لم يستطع النبي منهم أن يرفع مستوى
الإخلاص إلى الدرجة العليا في زمانه ، فكيف سوف يحدث بعد وفاته ؟
﴿ أما آدم عليه السلام فقد عصى ربه فغوى
﴾
، كما نص على ذلك التنزيل (1) وقال عنه : ﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من
قبل فنسي ولم نجد له عزماً
﴾(2)
. وبدون هذا العزم المطلوب لا يمكن وجود اليوم الموعود .
ــــــــــــــ
(1)
ط . 20
/ 121 .
(2)
نفس
السورة : 115 .
صفحة (219)
|