وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء الشخص ، فيكون تأثيره في خير المجتمع المسلم – مع غض
النظر عن الافتراضات الفلسفية أو العرفانية – محتاجاً إلى تفسير لمنافاة خفاء
الشخص مع الاختلاط بين الناس ، كما هو واضح . ويمكن الانطلاق إلى ذلك من أحد طرق
:
الطريق الأول :
الدعاء . فإن الدعاء المستجاب عمل اجتماعي صحيح ، كما سبق أن عرفنا .
الطريق الثاني :
العمل بواسطة خاصته الذين يرونه ويعرفونه ،ويراهم الناس ويعرفونهم ،وإن جهلوا
حقيقة وساطتهم للمهدي (ع).
الطريق الثالث :
عمله شخصياً بين الناس ، مع افتراض ارتفاع خفاء الشخص عند الحاجة إلى العمل .
فيعود خفي العنوان، إلى حين انتفاء العمل .
النقطة السادسة :
قوله : فاتقوا الله جل جلاله ، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ،
يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله
أمرهم بتقوى الله سبحانه ، ومظاهرته – أي المهدي نفسه – بمعنى معاونته على
انتياشهم أي إخراجهم وإنقاذهم من فتنة قد أنافت أي أشرفت عليهم . يهلك فيها من حم
أجله ، يعني حل قوت موته ، ويحمي فيها من أدرك أمله ، وهو البقاء في الحياة .
وليست هذه الفتنة التي توجب الهلاك ، إلا ما كان يقع من حوادث دامية مؤسفة بين
أهل المذاهب الإسلامية.
وإن من أهم المهام التي يستهدفها المهدي (ع) الحيلولة دون وقوع هذا الشر ودفع هذا
العداء ، ولذا نسمعه يأمر قواعده الشعبية بأن يعينوه في إنجاز عمله وإيصاله إلى
نتيجته وأخذهم بزمام المبادرة إلى القيام بما توجبه عليهم مسؤوليتهم
من سلوك وما تقتضيه التعاليم من أعمال ، حتى ينجوا من الهلكة ومن الدخول في هذه
الفتنة .
صفحة (153)
النقطة السابعة :
قوله : اعتصموا بالتقية . من شب نار الجاهلية ، يحششها عصب أموية ، يهول بها فرقة
مهدية(1) .
وهذا هو المنهج الذي يخطط المهدي (ع) للتخلص من هذه الفتنة ، وهو مكون من فقرتين
:
الفقرة الأولى :
الالتزام بالتقية ، بمعنى الاحتياط للأمر واتقاء وقوع الفتن والشر . ومن أهم
أساليبه عدم مجابهة أهل المذاهب الإسلامية الأخرى بما يغيضهم ويثير حفيظتهم ،
حرصاً على جمع كلمة المسلمين ، وسيادة الأمن في ربوع مجتمعهم .
وليس الأمر بالتقية جديداً أو مستحدثاً منه عليه السلام ، بعد أن كان قد ورد عن
آبائه المعصومين عليهم السلام التأكيد عليه . كقولهم (ع) : التقية ديني ودين
آبائي ... ومن لا تقية له لا دين له ... وغير ذلك(2). فمخالفة هذا
الأمر بشكل يوجب الضرر ، مع عدم وجود مصلحة إسلامية مهمة في إحداثه ،يعتبر من
أشد المحرمات في الإسلام.
ومن ثم نرى المهدي (ع) يعبر عن هذه الفتن بنار الجاهلية ، بمعنى أنها تمثل
انحرافاً أساسياً عن الإسلام. ويكون من يثيرها من قواعده الشعبية ، مساعداً على
هلاك إخوانه المؤمنين .
ــــــــــــــــــ
(1) الظاهر أن قوله : من شب نار الجاهلية ، مبتدأ محذوف الخبر ، أو شرط محذوف
الجزاء لوضوحه ، تقديره . فهو عاص أو معاند نحوهما .
(2) انظر أخبار التقية في وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي ن جـ 2 ، ص 545 وما
بعدها .
صفحة (154)
الفقرة الثانية :
الالتزام بالهدوء ، والخلود إلى السكينة وضبط الأعصاب ، وعدم التعرض
المباشر إلى القلاقل الحادثة . طبقاً لقوله تعالى :
}وإذا
مروا باللغوة مروا كراماً{(1)
.
ولذا نراه يقول : أنا زعيم – أي كفيل وضامن – بنجاة من لم يرم فيها المواطن ،
يعنى مواطن الهلاك ، وتجنب الاشتراك الفعلي في القلاقل . وسلك في الطعن منها ،
يعنى الفتن ، والاحتجاج على وقوعها ، السبل المرضية في الإسلام بالاعتراض الهادئ
وإبداء الرأي الموضوعي الصحيح .
ومن هاتين الفقرتين ، نفهم رأي الإمام عليه السلام ، في هذه الفتن ، ومرارته
وأسفه منها ، واعتراضه على مسببيها من أهل الإسلام ، بما فيهم بعض قواعده الشعبية
.
النقطة الثامنة :
قوله عن هذه الفتن : وهي إمارة لأزوف حركتنا ، ومبائتكم بأمرنا ونهينا . والله
متم نوره ولو كره المشركون .
ولا نستطيع أن نفهم من ذلك ، بطبيعة الحال ، أنه عليه السلام سوف يظهر بعد هذه
الفتن فيملاً الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً . لأن ذلك لم يحدث ،
فلا يمكن أن يكون الإعراب عن حدوثه مقصوداً للمهدي (ع). على أن مقتضى القواعد
العامة التي عرفناها ، عدم إمكان الظهور في ذلك العصر لعدم توفر شرائطه ومن أهمها
كون الأمة على مستوى التضحية الحقيقية في سبيل الإسلام وقيادة العالم كله بالعدل
الكامل ... وهو ما لم يكن متوفراً يومئذ بكل وضوح . وسيأتي في القسم الثاني من
هذا التاريخ مزيد توضيح لذلك .
ومن هنا احتاجت هذه العبارة من الرسالة إلى تفسير .
وما يمكن أن يكون فهماً كافياً لها ، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان ، أحد تفسيرين :
التفسير الأول :
أن يكون المراد من الحركة ، انتقاله من العزلة إلى المجتمعات ، ومن البراري
والجبال إلى المدن . باعتبار ما دلت عليه الرسالة نفسها من الاعتزال ، وما قلناه
من
أن ذلك – لو صح – فهو خاص ببعض الفترات الأولى من الغيبة دون الفترات المتأخرة .
ومعه يكون من المحتمل أن يكون المهدي (ع) عازماً على رفع اليد عن الاعتزال في ذلك
العصر .
ــــــــــــــــــ
(1) سورة الفرقان 25 / 72 .
صفحة (155)
وإذا ورد المجتمعات ، عاش فيها بشخصيته الثانية لا محالة . وعلى أي حال ، تكون
فرص العمل بالنسبة إليه أوسع وأثر أعماله أعمق . ولعل هذا هو المراد من قوله :
ومباثتكم بأمرنا ونهينا ... يعني أعطاؤه التوجيهات ، لكن لا بصفته الحقيقية ، بل
بشخصيته الثانية .
وهذا التفسير محتمل على أي حال ، لولا ما قد يوجد في التفسير الآتي من مرجحات .
التفسير الثاني :
أن يكون المراد من الحركة ظهوره وقيامه في اليوم الموعود . لكن بشكل لا يراد
ظهوره في عصر إرسال هذا الكتاب ، ليكون أخباراً غير مطابق للواقع .
بل يكون المراد ظهوره عليه السلام بعد تلك الفتن ولو بزمان طويل . وهو معنى جعل
تلك الفتن من علامات الظهور ، وسنعرف في القسم الثالث من هذا التاريخ ، أنه لا
ضرورة لافتراض أن تكون العلامة قبل الظهور مباشرة ، بل من العلامات ما يكون
سابقاً على الظهور بكثير . ويكون هذا من ذاك .
وقد يرد إلى الذهن في مناقشة ذلك : أن هذا مخالف لظاهر عبارة الرسالة ، فأنه يقول
:وهي إمارة لأزوف حركتنا، ولا يقال : أزف الشيء إلا قرب زمان حدوثه . فكيف يمكن
افتراض زمان طويل .
والجواب على ذلك : أننا يمكن أن نفهم من التن المشار إليها كإمارة على أزوف
الحركة ، مفهوماً عاماً تشمل كل الانحرافات والمظالم في عصر الغيبة الكبرى ، ومن
المعلوم أن هذه المظالم لا تنتهي إلا عند الظهور ، إذن فيكون انتهاؤها إمارة
مباشرة للظهور . والله العالم بحقائق الأمور .
صفحة (156)
النقطة التاسعة :
قوله : إذا حل جمادي الأولى من سنتكم هذه ، فاعتبروا بما يحدث فيه ، واستيقظوا من
رقدتكم لما يكون في الذي يليه .
وهو شيء لم نستطع أن نتبينه من التاريخ ، وهو لم يحص من الحوادث إلا القليل . نعم
: سوى بعض الحوادث "الطبيعية" التي سنشير إليها في النقطة القادمة .
النقطة العاشرة :
قوله : ستظهر لكم في السماء آية جلية ، ومن الأرض مثلها بالسوية .
وظاهر سياق التعبير ، كون هذه الآيات تظهر في جمادي الأولى أيضاً من نفس العام ،
وهو سنة 401 للهجرة .
أما ما حدث في الأرض ، فقد حدثنا التاريخ أنه في النصف من جمادي الأولى من هذا
العام فاض البحر المالح وتدانى إلى الأيلة ودخل البصرة بعد يومين(1) .
وأما ما حدث في السماء ، فهو ما سمعناه من تتابع سقوط النيازك الضخمة ، المعبر
عنها في لغة المؤرخين بالكواكب ... ويحدث عند سقوطها صوت شديد وضوء كثير ، كالذي
حدث عام 417 ، كما سمعنا فيما سبق .
وهو وإن لم يكن في نفس عام إرسال الخطاب ، إلا أننا قلنا بأن هذا الخطاب ، حيث
أنه موجه لمجموع القواعد الشعبية المهدوية ، إذن فمن الممكن أن يتأخر الحادث
الموعود عدة سنوات لكونها قليلة بالنسبة إلى عمر الأمة الطويل .
فإن قال قائل : أن هذا مخالف لظهور العبارة الذي فهمناه من السياق وهو حدوث
الآيات السماوية والأرضية في جمادي الأولى من نفس العام ، وهو عام 410 .
يكون الجواب عليه : أننا بين أحد أمرين : الأول : رفع اليد عن هذا الظهور ، في
حدود الآية السماوية ، فأنه يكفي في صدق السياق كون الآية الأرضية واقعة في نفس
الموعد . والثاني : أن نفترض أن جمادي الأول في نفس العام وقعت فيه آية سماوية
غير منقولة في التاريخ .
ــــــــــــــــــ
(1) هامش الكامل ، جـ 7 ، ص 303 .
صفحة (157)
|