النقطة الحادية عشر :

قوله : ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق .

ولسنا نعاني كثيراً في فهم ذلك ، إذا عرفنا أن هذا الكتاب ورد العراق ، إلى الشيخ المفيد قدس الله روحه ، فالمراد بالمشرق – إذن – ما كان في شرق العراق ، وهو إيران نفسها ... دولة البويهيين ومركز ثقلهم يومئذ . وكانت تعاني منذ زمن الحروب والحوادث الكثيرة المتكررة التي أوجبت شيئاً فشيئاً تفكك الدولة البويهية ، وضعفها وسيطرة السلاجقة عليها في نهاية المطاف .

على أننا لو راقبنا التاريخ القريب من صدور هذا الكتاب ، لرأينا أن همدان تعاني من الحروب عام 411(1)      وعام 414(2) . ومن المعلوم أن الحروب على الدوام مصدر للقلق والحزن ، لأنها تكون على طول الخط على حساب الشعب البائس . فإذا لم تكن الحرب عادلة ولم يكن للشعب فيها نصيب حقيقي ، كان ذلك ظلماً كبيراً وجوراً عظيماً .

النقطة الثانية عشرة :

قوله : ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مراق ، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق . ثم تنفرج الغمة بدار طاغوت من الأشرار ، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار .

يعني يسيطر بعد الحوادث السابقة من قلاقل طائفية وآيات سماوية وأرضية ، يسيطر على العراق أقوام خارجين عن تعاليم الإسلام . وفي ذلك تعريض واضح بالسلطان طغرل بك أو ملوك السلاجقة ، وتابعيه ، فإن بعد أن انتهى من تقويض دولة البويهيين في إيران بعد حروب مدمرة ، قصد العراق فدخل بغداد عام 447(3) .

ــــــــــــــــــ

(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 307 .   (2) المصدر ، ص 313 .   (3) المكامل ، جـ 8 ، ص 70 .

صفحة (158)

وترتب على دخوله فيها قلاقل وحروب مؤسفة وعم الخلق ضرر عسكره وضاقت عليهم مساكنهم ، فإن العساكر نزلوا فيها ، وغلبوهم على أقواتهم وارتكبوا فيها كل محذور(1) .

وأما قلة الأرزاق وغلاء الأسعار ، فحدث عنها ولا حرج ... إذ نسمع التاريخ يخبرنا أنه قد كثر الغلاء وتعذرت الأقوات وغيرها من كل شيء ، وأكل الناس الميتة ، ولحقهم وباء عظيم ، فكثر الموتى بغير غسل ولا تكفين ، فبيع رطل اللحم بقيراط وأربع دجاجات بدينار . وسفرجلة بدينار ورمانة بدينار ، وكل شيء كذلك(2) .

وبقي هذا الغلاء عدة سنوات ، بل استمر في التصاعد ... ففي عام 449 زاد الغلاء ببغداد والعراق ... وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها ، وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى ، فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة(3) .

أما الخليفة في بغداد ، فكان يعيش جواً آخر بعيداً عن الغلاء والوباء . فقد أكرم طغرل بك إكراماً عظيماً ومكنه من بلاده تمكيناً أسبع عليه صفة الشرعية ، حين قال له : إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك. وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده ورد عليك مراعاة عباده ، فاتق الله فيما ولاك واعرف نعمته عليك في ذلك واجتهد في نشر العدل وكف الظلم وإصلاح الرعية .

فقبل الأرض ، بين يدي الخليفة . وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه . فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب ، وأعطي العهد وخرج .

وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسين ألف دينار وخمسين مملوكاً أتراك من أجود ما يكون ومعهم خيولهم وسلاحهم إلى غير ذلك من الثياب وغيرها(4) فانظر إلى ترف الحكام وبؤس المحكومين ، وتسامح الخليفة بدماء المسلمين وأموالهم حين ولى عليهم هذا الظالم العنيد .
ـــــــــــــــــ
(1) المصدر ، ص 77 .  (2) المصدر ، ص 79 .  (3) المصدر ، ص 81 .  (4) المصدر ، ص 80 .

صفحة (159)

فقد كان طغرل بك – بحسب ما وصفه التاريخ - : ظلوماً غشوماً قاسياً ، وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم وأيديهم مطلقة في ذلك نهاراً وليلاً(1) حتى توفي عام 544(2) .

فمن هنا نرى بوضوح ، انطباق الأوصاف على طغرل بك وعسكره وذويه . فإنهم "طوائف عن الإسلام مراق" باعتبار ما ارتكبوه من المحرمات الصريحة الموجبة للخزي والفضيحة . وقد ضاقت "بسوء فعالهم على أهله الأرزاق" كما سمعنا . إذ من المعلوم كيف تنحدر البلاد إلى وضع اقتصادي رديء ، تحت ظل الحروب والقلاقل .

وقد انكشفت الغمة من بعد ، ببوار – يعنى بموت – "طاغوت من الأشرار" وهو طغرل بك نفسه . وقد أدخل هلاكه السرور على قلوب المتقين الأخيار .

ونفهم معنى انكشاف الغمة بموته ، إذا التفتنا إلى التاريخ وعلمنا أنه لم يحدث مثل هذا الغلاء والوباء بغد طغرل بك طيلة حكم الدولة السلجوقية .

النقطة الثالثة عشرة :

قوله : يتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق . ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق ، شأن يظهر على نظام واتساق .

وهذه نبوءة صادقة بتسهيل الحج بعد صعوباته التي سمعناها ، وانحلال مشاكله . فيتحقق للحجاج من كل البلاد ما يأملونه من الأمن والسهولة .

وتصديق هذه النبوءة واضح جداً في التاريخ . فإنه بالرغم من أنه استمر منع الحج حقبة من السنين ، إلا أنه لم ينقل بعد عام 419 أي منع للحج ، مما يدل على أن الطرق قد توفرت للحجاج . فقد تحققت النبوءة بعد عشرة أعوام من صدورها .
ــــــــــــــــــ
(1) المصدر ، ص 95 .  (2) المصدر ، ص 94 .

صفحة (160)

وأما حدوث ذلك بمساعي المهدي (ع) وجهوده ، فهو بمكان من الإمكان ، طبقاً لما عرفناه من مسؤولية العمل الإسلامي للإمام المهدي خلال غيبته ، بناء على أطروحة خفاء العنوان. فإذا دل الكتاب على تأثر عمل الإمام في سهولة الحج ، فلا بد من تسجيل ذلك تاريخياً ، لو صلح هذا الكتاب للإثبات التاريخي . ودلالة الكتاب على هذا واضحة حين يقول : ولنا في تيسير حجهم ... شأن يظهر على نظام واتساق .

النقطة الرابعة عشرة :

قوله : فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا ، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا ، فإن أمرنا بغتة فجأة ، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة .

أمر عليه السلام كل فرد من قواعده الشعبية ، بأن يفعل ما يقربه من محبة إمامه ورضاه ، ويترك ما يقربه من كراهته وسخطه . وهذا معنى واضح ولطيف ، فإن رضى المهدي (ع) رضا الله تعالى ، وكلما يقرب للمهدي (ع) فهو يقرب إلى الله ... وذلك بالشعور بالمسؤولية تجاه أحكام الإسلام ، والاستجابات الصالحة تجاه الأحداث ... كما أن سخط المهدي سخط الله تعالى ، وكلما يبعد عنه يبعد عن الله تعالى . 

ويعطي المهدي (ع) لذلك تعليلاً مهماً حين يقول : فإن أمرنا بغتة فجأة ، حين لا تنفعه توبة الخ .

والمضمون العام لذلك ، هو : أن الفرد المؤمن بظهور المهدي (ع) المتوقع له في كل حين ، بغتة وفجأة ، يجب أن ينزه نفسه عن المعاصي ويقصر سلوكه على طاعة الله عز وجل ، ليكون على المستوى المطلوب عند الظهور. وحيث كان الظهور محتملاً دائماً ، فيجب أن يكون الفرد على هذه الصفة دائماً .

وأما إذا بقي الفرد عاصياً منحرفاً سلوكياً أو عقائدياً ، ولم ينزه نفسه في أثناء الغيبة ، ولم يتب إلى الله تعالى ... فسوف لن تنفعه توبته أو ندمه بعد ذلك . وسيعاقبه الإمام المهدي (ع) بعد ظهوره على ما اقترفه من ذنوب ، على كل حال ، وسكيون عقابه في ذلك المجتمع الإسلامي العظيم خزياً أبدياً له . وبما أن الظهور محتمل على الدوام ، إذن فالبدء بعقاب المذنبين محتمل على الدوام ، فإذا أراد الفرد أن يحول دون هذا الاحتمال ، فما عليه إلا أن يرتدع عن الذنوب ، ويكمل نفسه من العيوب .

صفحة (161)

الناحية السادسة :

في استعراض نص الرسالة الثانية التي رواها الطبرسي(1) مرسلاً عن الإمام المهدي (ع) . ولها من قيمة الإثبات التاريخي ما ذكرناه للرسالة الأولى .

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام الله عليك أيها الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق . فأنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، آلهنا وآله آبائنا الأولين . ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين ، وعلى أهل بيته الطاهرين .

وبعد : فقد كنا نظرنا مناجاتك ، عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه . وشفعنا ذلك الآن من مستقر لنا بنصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان . ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان. ويأتيك نبوءنا بما يتجدد لنا من حال ، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال . والله موفقك لذلك برحمته .

فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة تسبل النفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون ، ويحزن لذلك المجرمون .

وآية حركتنا من هذه اللوثة ، حادثة بالحرم المعظم من رجس منافق مذمم ، مستحل للدم المحرم ، يعمد بكيده أهل الإيمان ، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان . لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء . فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب وليثقوا بالكفاية منه ، وإن راعتهم بهم الخطوب ، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهى عنه من الذنوب .
ــــــــــــــــــ
(1) انظرها في الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 324 ، ط النجف .

صفحة (162)

ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين , أيدك الله بنصره الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين . أنه من اتقى ربه من أخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقه كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة . ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته ، فأنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته .

ولو أن أشياعنا – وفقهم الله لطاعته – على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم ، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا ، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا . فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا تؤثره منهم . والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم .

وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة .

نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها : هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحق العلي ، بإملائنا وخط ثقتنا . فاخفه عن كل أحد ، واطوه ، واجعل له نسخة يطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا شملهم الله ببركتنا إن شاء الله . الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين .

الناحية السابعة :

في استعراض المهم مما تتكفل هذه الرسالة بيانه . ويمكن أن يتم ذلك في ضمن عدة نقاط .

النقطة الأولى :

إن الرسالة ذات سياق عام واضح متعمد ، في الصدور من جهة عليا إلى جهة أدنى منها . وهي في ذلك أوضح من الرسالة الأولى إلى حد كبير .

صفحة (163)