بل أن هذا الدين غير خاص بقادة الإسلام ، بل عام لكل عالم عندما يسأله جاهل ، وكل اختصاصي عندما يسأله عامي. فليس من المحتمل أن يجيب انشتاين بكل تفاصيل نظريته النسبية ، أو ببعض دقائقها ، لو سأله عنها شخص ، وإنما يكتفي في الإعراب عنها ، بإعطاء بعض العموميات .

وهذا هو المراد الجوهري ، مما ورد شرعاً وعرفاً ، من قولهم : خاطب الناس على قدر عقولهم . وهو أمر واضح في الأذهان في غاية الوضوح .

ومعه ، فلا ينبغي أن نتوقع من المهدي (ع) أن يسير بغير هذا الديدن الذي سار عليه آبؤه عليهم السلام . فهو لا محالة يقدر المستوى العقلي والثقافي للفرد قبل أن يوجه توجيهه أو يذكر كلامه .

فإذا علمنا أنه عليه السلام كان يواجه الناس لأغراض حل مشاكلهم العامة والخاصة ، بغض عن مستوياتهم الثقافية ، وعلمنا أن كثيراً من كان يواجههم ذو مستوى في الوعي والثقافة الإسلامية العامة واطئ إلى حد كبير ... لم نكن نتوقع – مع هذا – أن يذكر المهدي توجيهاً أو إرشاداً خارجاً عن حدود قضاء الحاجة وتذليل المشكلة ، مما يكون له آثار أخرى في المجتمع والحياة .

وهذه هي القاعدة الأساسية التي تفسر هذا الجانب من سياسة الإمام عليه السلام ، تجاه الآخرين .

النقطة الرابعة :

أننا لو غضضنا النظر عما قلناه في النقطة الثالثة ،وفرضنا أن المهدي (ع) يوجه البيانات إلى من يراه بشكل واسع، بقطع النظر عن مستواه الثقافي والفكري ... فنحن – مع ذلك – لا ينبغي أن نتوقع من هذه التوجيهات أن تصنع لنا الأبطال والمشاهير في العلم والعمل ... كما تخيل السائل الذي نناقشه الآن .

صفحة (109)

فإننا نعرف سلفاً أن المقابلة تكون قصيرة دائماً ، وغير مكرر على الأغلب ، ومكرسة – بطبيعة الحال – لأجل حل مشكلة معينة . إذن ، فماذا يبقى للتوجيهات العامة المتصوورة للإمام المهدي (ع) من الزمان ، إلا أقل القليل . فلو فرض أن الإمام عليه السلام اغتنم هذه الفرصة ، وتكلم مع الفرد مقدار ربع ساعة أو نصف ساعة على أكبر التقادير ، فإن هذا الكلام مهما كان مركزاً وكاملاً وعميقاً ، لا يمكن أن يصنع من الفرد العادي بطلاً من الأبطال ، أو شهيراً من المشاهير ، من الزاوية الإسلامية الحقة . فإن الأمر لا يخلو من أحد فرضين لا ثالث لهما . وهما : أن المهدي (ع) إما أن يريد تربية من يقابله وتثقيفه بشكل المعجزة ، وإما أن يريد ذلك بنحو طبيعي .

أما طريق المعجزة فهو منسد أساساً ، لعدم كون هذه المعجزة واقعة في طريق إقامة الحجة ، بعد فرض إيمان الفرد بالإسلام ، فلا يقتضي قانون المعجزات وجودها . على أنها لو وجدت للزم منها الجبر الباطل على ما هو يبرهن عليه في محله من بحوث العقائد في الإسلام .

وأما تربيته وتثقيفه بالطريق الطبيعي ، فمثل هذه التربية مما لا يمكن وجوده في زمان يسير ، وإنما يحتاج الإنسان في تكامله إلى زمان طويل وتجربة واسعة وتربية بطيئة حتى يتكامل وينضج نضجاً واقعياً . ولا يمكن أن يكون كلام الإمام (ع) – حتى لو فهمه واستوعب حقائقه – إلا خطوة واحدة في طريق تكامل الإنسان . ويبقى بينه وبين رفعته الحقيقية خطوات وخطوات .

على أن الكلام المركز القصير الذي فرضناه في السؤال ، مما يتعذر على الفرد العادي فهمه ويحول تركيزه وعمقه دون استيعابه . وأما إذا لم يكن مركزاً وعميقاً لم يكن منتجاً للنتائج المتوقعة في السؤال .

إذن ، فيتعين على المهدي (ع) – في حدود هذه النقطة الرابعة – أن يعرض عن التوجيهات صفحاً ، لعدم جدواها إلا بطريق إعجازي ، لا يمكن تحققه طبقاً لقانون المعجزات .

النقطة الخامسة :

أننا نحتمل – على الأقل – أن هذه التوجيهات العامة لو تكررت وأثرت لكان لها أبلغ الأثر في تغيير التاريخ الإسلامي بل التاريخ البشري ، وفاقاً لما قاله السائل ، بعد التنزل عن النقاط السابقة .

صفحة (110)

وهذا التغيير المتوقع ، مما لا يحتوي على مصلحة ، لأنه يؤخر يوم الظهور ويفوت شرطه الأساسي ، وهو مرور الأمة بأزمنة الظلم والجور ، حتى تتكامل عن تجربة وحنكة وقوة إرادة ، لا عن استخذال وتكاسل . ومعه فلا يمكن أن يقوم المهدي (ع) بذلك ، وإنما يقتصر على التوجيهات الصغيرة التي لا تبلغ هذا المستوى .

إذن ، فبلحاظ أي واحدة من هذه النقاط ، فضلاً عن مجموعها ، يكون من المنطقي أن نتصور خلو أخبار المشاهدة من التوجيهات العامة الواعية ، واقتصارها على ما هو المقصود من المقابلة ، ليس إلا .

مضافاً إلى أننا نعرف أن الرواة إذا كانوا من الخاصة المخلصين المتقبلين لتوجيهات المهدي (ع) ، فإنهم يحذفونها عند نقل الواقعة احتراماً لها وصوناً لمدلولها عن الانتشار ... كما يظهر من بعض روايات المشاهدة . واذا لم يكونوا من أولئك الخاصة ، فإنهم إما أن يحذفوا التوجيهات لعدم الاهتمام بها ، وإما أنهم ينقلونها بالمعنى الذي فهموه ، فتبدو لنا بشكل ممسوخ ذو طابع شخصي ضيق ، ولا تكاد تكون من التوجيهات العامة ، إذا عرضت بهذا الشكل .

هذا ، فيما إذا سلمنا ، ما افترضناه في السؤال من أن التوجيهات العامة لم ترد في روايات المشاهدة ... هذا وإن كان صحيحاً بشكل عام . ولكننا لا نعدم سماع ذلك أحياناً ، حين يجد المهدي (ع) مصلحة في التوجيه ، في الحدود الممكنة . وقد نستطيع أن نحمل فكرة عن ذلك فيما يلي من هذا الفصل .

الأمر الثالث :

هل أن مشاهدات المهدي عليه السلام على حقيقته ، في غيبته الكبرى ،يحتاج إلى درجة عالية من الإيمان والوثاقة، كما يميل إليه بعض الباحثين ، أو لا يحتاج .

صفحة (111)

لاشك أن تلك الدرجة العليا ، كانت شرطاً في مشاهدة صاحب الأمر المهدي (ع) في غيبته الصغرى ... كما عرفنا في تاريخها ، حيث لم يكن أبوه الإمام العسكري (ع) يطلع أحداً عليه إلا من الموثوقين الخاصين ، وكذلك كان ديدن المهدي (ع) بعد وفاة أبيه . ما عدا حوادث قليلة جداً ظهر عليه السلام للمنحرفين من أصحابه لمصالح معينة ، وبشكل مأمون النتيجة(1) .

وأما في عصر الغيبة الكبرى ... فلا شك أن الأغلب هو اختصاص المقابلة بالخاصة الموثوقين . كما لا شك في أن الإمام المهدي (ع) قد يخص بعض الموثوقين ، بأكثر من مقابلة واحدة ، ولعلها تصل إلى عدد مهم من المقابلات لدى عدد منهم . 

كما لا شك في أن المصالح الإسلامية ، قد تقتضي ظهوراً للمنحرفين ، إذا كان بنحو مأمون النتيجة .

ومعه ، فينبغي أن يقال : أن نفس النسبة التي رأيناها في الغيبة الصغرى ، تتكرر بشكل أو آخر ، في الغبية الكبرى أيضاً ، بين الموثوقين والمنحرفين . وهذا كله واضح لا غبار عليه ... لا بحسب القواعد العامة ، ولا بحسب أخبار المشاهدة ، إذ أن المنقول من المقابلات مع غير الموثوقين ، مشابه لهذه النسبة تقريباً .

ولكن الذي ينبغي أن نلتفت إليه ، هو وجود فرق أساسي ما بين حال المهدي (ع) في غبيته الصغرى وحاله في غيبته الكبرى ، فهو في الكبرى أكثر أمناً وأبعد عن التفات الأذهان إليه فتفتح له فرصة أكبر في مقابلات الناس ، بما فيهم غير الموثوقين والمنحرفون أيضاً . مع الالتزام بتخطيط معين يضمن عدم الاطلاع على حقيقته إلا بعد الفراق .

وهذا واضح ، بعد أن عرفنا من مضادرة السلطات له في الغيبة الصغرى ، وهناك قسم من الناس يعرفونه ويعرفون والده ، وخاصة في القسم الأول من تلك الفترة . وأما في الغيبة الكبرى ، فقد ابتعدت الأنظار عنه، وخفي شكله بالمرة عن سائر البشر ، وأيست السلطات عن مطاردته ، بل أنكرت وجوده تماماً . وكل ذلك يكون في مصلحة حرية تنقلاته ومقابلاته ، كما هو واضح .

ومن هنا نكاد نشخص بوضوح ، أن نسبة مقابلاته مع غير الموثوقين ، أكثر إلى حد واضح من نسبتها في الغيبة الصغرى . وأما المنحرفون ، فالمقابلة معهم أقل من ذلك العدد بكثير ،ولا تكون إلا فيما إذا توقف عليه غرض كبير، ولم يمكن تنفيذه عن طريق المقابلة مع أحد الموثوقين أو غير المنحرفين .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 469 وص 5.6 وما بعدها .

صفحة (112)

الأمر الرابع :

في التخطيطات التي يضعها المهدي (ع) لأجل ضمان عدم التفات الرائي إلى حقيقته في أثناء المقابلة .

فإن المقابلة ، قد تقتضي ، بحسب المصلحة ، أن يكشف المهدي عن حقيقته في أثنائها . وقد يكون الرائي عارفاً له من مقابلة سابقة ، كما قد يحصل للموثوقين الخاصين . وقد تقتضي المقابلة أن لا يعرفه الرائي إلا بعد المفارقة، فيما إذا لم يكن بتلك الدرجة العليا من الوثاقة ، فضلاً عما إذا لم يكن موثوقاً أو كان منحرفاً .

ففي مثل ذلك يحتاج المهدي (ع) إلى التخطيط بنحو يدع الرائي غافلاً عن حقيقته إلى حين الفراق ، على أن يفهم بعد ذلك أن الذي كان قد رآه ... هو المهدي (ع) .

وأساليب التخطيط الذي كان يضعها المهدي (ع) في سبيل ذلك ، بحسب ما ورد في أخبار المشاهدة ، عديدة، يمكن تلخيصها فيما يلي :

الأسلوب الأول : إبداله لزيه وواسطة نقله :

فنراه كثيراً ما يكون مرتدياً العقال العربي ، على اختلاف الأشكال ، فتارة نراه بزي البدو(1)وثانية بزي مهيب لطيف(2) وثالثة بزي فلاح يحمل مسحاته(3) ورابعة بزي سيد جليل من رجال الدين(4) .
ــــــــــــــــــ
(1) النجم الثاقب ، ص 241 .   (2) المصدر نفسه ، ص  359 .  (3) المصدر نفسه ، 343 .
(4) المصدر نفسه ، ص 273 .
  .

صفحة (113)