الوجه الثاني :
أننا ينبغي أن نلتفت إلى ما قلناه من أن هناك عدداً ضخماً من المشاهدات غير
المروية، قد يفوق العدد المروي منها .
إذن ، فمن المحتمل أن يكون عدد مهم من المشاهدات واقع خارج العراق ، ولم تسنح
الظروف – التي أشرنا إلى بعضها – بنقل أخبارها إلينا .
كما ينبغي أن لا ننسى ما قلناه من أن المهدي عليه السلام يعمل الأغلب من أعماله
بشخصيته الثانية وبصفته فرداً عادياً في المجتمع ، ومثل هذه الأعمال تحصل ولا
يردنا خبرها بطبيعة الحال . أو قد يصلنا الخبر ولا نعرف انتسابها إلى
المهدي (ع) بحقيقته .
ومعه فالمهدي يمكنه أن يعمل في سائر البلاد التي يصل اليها ، سكناً أو سفراص ، من
دون أن يثير حوله أي استفهام أو أن يصل إلى الآخرين عنه أي خبر .
الوجه الثالث :
إن غاية ما تدل عليه هذه الأخبار ، هو أن غالب سكنى المهدي (ع) هو في العراق .
ومن المعلوم أن عمل الفرد يكثر في محل سكناه عنه في المناطق الأخرى .وخاصة فيما
إذا كان يجد من بعض الأسفار صعوبة وخطراً علىنفسه أو إثارة للاستفهام عن حقيقته .
واختياره عليه السلام العراق للسكنى ، ممكن وقريب ، ولا ينافي أياً من الأطروحتين
الرئيسيتين . وخاصة بعد أن كان هو بلد سكناه غالباً في غيبته الصغرى – كما
عرفنا- . وفيه مساكن ومدافن جملة من آبائه الطاهرين عليهم السلام . وكان
مركزاً لعدد مهم من الأعمال الاسلامية الكبرى في صدر الإسلام كواقعة كربلاء
وغيرها . وسنعرف أيضاً في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة أن العراق والكوفة على
الخصوص، ستكون هي المنطلق الأساسي ، بعد ظهور المهدي (ع) لفتح العالم كله
والعاصمة الرئيسية للدولة الإسلامية العالمية المهدوية .
صفحة (104)
وهنا يمكن أن يخطر في الذهن سؤالاتن ، لا بد من عرضهما مع محاولة الجواب عليهما :
السؤال الأول :
أنه لماذا كان العراق هو مركز الثقل في كل هذه الأعمال الكبرى ، ولم يكن غيره
بهذه الصفة . مع العلم أننا نؤمن بتساوي البشر عامة والمسلمين خاصة وبتساوي
المناطق واللغات تجاه التشريع الإسلامي والعدالة الإلهية . فما هو الوجه في ذلك ؟
والجواب عن ذلك : أن العراق لم يحتل هذا المركز المهم ، من أجل عنصرية معينة ،
وإنما له من الصفات الواقعية التي تجعله المنطلق الوحدي في العالم لكل تلك
الأعمال الكبرى .
ويمكن تلخيص خصائصه الرئيسية بما يلي :
الخصيصة الأولى :
إن العراق من الناحية الجغرافية ، يعتبر في وسط البلاد الإسلامية في عصر الغيبة ،
ابتداءً بالهند وأندونيسيا وانتهاءً بمراكش وغرب أفريقيا عموماً .
الخصيصة الثاية :
إن العراق مسكن للقواعد الشعبية التي تؤمن بوجود المهدي (ع) وغيبته .
الخصيصة الثالثة :
إن العراق سيصبح الأرض التي تتمخض عن عدد غير قليل من القواد الرئيسيين للمهدي
(ع) بعد ظهوره ، كما سيتضح من الكتاب الثالث من هذه الموسوعة ، بخلاف البلاد
الإسلامية الأخرى ، فأنها تتمخض عن عدد قليل .
والسر في ذلك : ليس هو أفضلية العراق ككل على غيره ، وإنما ذلك باعتبار ما يمر به
الشعب هناك من مآسٍ ومظالم أكثر من غيره من الشعوب المسلمة ، وسنعرف في ما يلي من
هذا التاريخ أن زيادة الظلم يتمخض عن كثرة الإخلاص والمخلصين .
صفحة (105)
وبهذه الخصائص الثلاث ، يكون العراق ذا موقع أهم من الناحية الإسلامية
من كثير من البلاد الإسلامية الأخرى : نعم ، ينبغي أن لا ننسى الجزء الأكبر من
بلاد فارس فإنها أيضاً تتصف بنفس الخصائص . وحيث كانت مجاورة للعراق أمكن تعميم
المنطقة بخصائصها إليها .
السؤال الثاني :
إن روايات المشاهدة وإن دلت على سكنى المهدي (ع) في العراق ، إلا أن هناك أموراً
أخرى تدل على خلاف ذلك ، تكون معارضة مع هذه الروايات . فكيف نجمع بينهما .
الأمر الأول :
ما سبق أن ذكرناه طبقاً للأطروحة الرئيسية الثانية ، من أن خير وجه متصور يخطط
المهدي (ع) لكي يبعد الأنظار عن نفسه والالتفاف إلى حقيقته ، هو أن يسكن في كل
جيل مدينة إسلامية غير التي كان يسكنها وقلنا أنه لعله يسكن في كل خمسين سنة في
مدينة من العالم الإسلامي .
ولكن الواقع أن هذا لا يعارض سكناه الغالبة في العراق خلال التاريخ ، وسكناه في
عدد من مدن العراق أيضاً . فلا يكون معارضاً مع ما دلت عليه روايات المشاهدة .
الأمر الثاني :
الرواية السابقة التي دلت على اختياره المدينة المنورة للسكنى .
الأمر الثالث :
ما سمعناه من اختياره البراري والقفار وشعاب الجبال محلاً للسكن ، كما دلت عليه
رواية علي بن مهزيار.
والجواب على كلا هذين الأمرين ، من وجهين :
الوجه الأول :
أننا سبق أن وجدنا المبررات الكافية لرفض الأخذ بكلا هاتين الروايتين ، ومعه ،
فلا تكون معارضة ما دلت عليه روايات المشاهدة .
صفحة (106)
الوجه الثاني :
إن ما يدل عليه غالب روايات المشاهدة هو سكنى المهدي في غالب العصور المتأخرة في
العراق ، ومعه ففي الإمكان افتراض سكناه في البراري والقفار . وخاصة بعد أن علمنا
أن الحاجة إلى الانعزال والحماية قد ارتفعت بالمرة عن شخص المهدي عليه السلام ،
في العصور المتأخرة .
فهذه هي جملة الأقسام في أخبار المشاهدة ، مع تمحيصها . ونكرر تارة أخرى أن كل
رواية بمفردها ، قد تكون قابلة للمناقشة إلا أن العلم الحاصل من المجموع غير قابل
للمناقشة ، ويكون نافياً للكذب والخطأ والوهم … ولو في بعضها على أقل تقدير .
الأمر الثاني :
من الكلام عن أخبار المشاهدة .
إن هناك إيراداً عاماً يمكن أن يرد على هذه الأخبار لو لوحظت النظرة الإسلامية
العامة إلى المجتمع .
وحاصل هذا الإيراد : أننا لا نكاد نجد في أخبار المشاهدة ، في الغيبة الكبرى ،
توجيهاً عاماً واعياً يقوله الإمام عليه السلام لأحد ممن يقابله ، سواء كان الغرض
قضاء حاجة عامة أو قضاء حاجة خاصة .
مع أن يتبادر إلى التصور أن ما يفعله الإمام (ع) في أثناء المقابلة ، هو أن يربي
من يقابله ويثقفه بالثقافة العامة الإسلامية الصحيحة ، ويلخص له في عدة كلمات
القضايا الإسلامية المهمة التي تنير له الطريق وتحثه على السير القويم .
والمشاركة في بناء المجتمع المسلم بناء صالحاً واسع الأثر بعيد النتيجة .
مع ان هذا لم يحدث ، إذ لو كان قد حدث لنقل في الأخبار ، مع أنه تكاد أن تكون
خالية عنه ، ولو كان قد حدث لأصبح الفرد من أفضل الصالحين ، وأوسع العاملين ،
ولرأينا آثاراً اجتماعية مهمة مترتبة على أعمال الذين شاهدوا المهدي (ع) ،
وتابعيهم بإحسان ، مع أن ذلك لم يحدث !
صفحة (107)
فلماذا لم يقل المهدي (ع) مثل هذه التوجيهات ، وإذا كان قاله ، فلماذا لم ينقل
إلينا ، أو لم يظهر أثره في المجتمع المسلم .
ونحن إذا استطعنا الجواب على ذلك ، فقد سرنا قدماً جديدة في تحديد سياسة الإمام
المهدي (ع) تجاه الآخرين ممن قابلوه ، وممن لم يقابلوه أيضاً .
ويتم الجواب على ذلك ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
أننا عرفنا أن المهدي (ع) يعمل – مع اجتماع الشرائط – العمل النافع بصفته فرداً
اعتيادياً في المجتمع . وفي مثل ذلك يكون له أن يقول ما يشاء ويفعل ما يريد ويمهد
لتكميل الأفراد والمجتمعات ، من دون أن تعرف هويته الحقيقية . وربما كان الكثير
ممن برزوا في العالم الإسلامي علماً وعملاً ، كانوا قد سمعوا التوجيه من المهدي
(ع) بدون أن يعرفوه على الإطلاق .
النقطة الثانية :
إن المهدي (ع) قد يجتمع بالخاصة من المؤمنين به ، وهو ما سبق أن تصورناه بصفته
أطروحة محتملة ، وتدل عليه بعض الأخبار أيضاً ، على ما سنسمع ، وباجتماعه معهم ،
بالشكل الذي يعرفوه بحقيقته ، ينفتح لهم المجال الواسع لتلقي التعليمات منه عليه
السلام ، والخوض في مناقشة المسائل الاجتماعية والاسلامية على صعيد واسع وواعٍ .
ثم هم يطبقونه في حياتهم العملية ، من دون أن ينقلوا من هذا القبيل .
فإن كفى ذلك في قناعتنا في كفاية هذه التوجيهات ، عما نتوقعه من أخبار المشاهدة ،
فهو المطلوب . وإن تنزّلنا عن هذه النقطة ، أمكننا الانتقال إلى ما يلي :
النقطة الثالثة :
إن المعهود من ديدن النبي (ص) ، والأئمة عليهم السلام ، هو إعطاء كل مقام مقاله ،
وعدم المبادرة إلى البيان من دون سؤال . وإذا سألهم سائل عن بعض
الحقائق العبادية أو الاجتماعية أو الكونية ، نظروا إلى مقدار مستوى السائل من
حيث الثقافة ، وأعطوه من الجواب بمقدار ما يفهمه ويستطيع هضمه وتمثيله نفسياص
وعقلياً . ولم يكونوا يحملونه جواباً يحوي من الحقائق ما لا يطيقه كاهله أو لا
يسيغه عقله .
صفحة (108)
|