العامل الثالث :
العامل الفكري والاتجاه الاجتماعي للقواعد الشعبية المتدينة وعلمائها ، بشكل عام
، في حقبة من الغيبة الكبرى . ولا زال هذا الاتجاه موجوداً عن التقليديين من
الناس .
ويتجلى تأثر الرواي بهذا العامل ، في عدة أمور :
الأمر الأول :
التركيز في العمل الإسلامي على جانب العبادات ، والإهمال الكامل أو الغالب
للعلاقات الاجتماعية العامة ، ولوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحوها
من المسؤوليات العامة في الإسلام ، مما هو قليل في مجتمعاتنا المسلمة منذ عهد غير
قريب .
ومن هذه الزاوية انطلق الراوي ، إلى مدينته الفاضلة ، فكانت لهذه المسؤوليات ،
زاوية مهملة فيها .
الأمر الثاني :
الاقتصار في العمل الإسلامي عند العلماء التقليديين على التدريس وإقامة الجماعة
والإفتاء إذا سألهم أحد ، ولا شيء غير ذلك ، ما عدا مصالح شخصية لا تمت إلى
المجتمع بصلة .
إذن فينبغي أن يكون الرئيس الأعلى للمدينة الفاضلة ، مقتصراً في عمله على أمثال
هذه الأمور ... باعتقاد هذا الرواي .
مع أن علماءنا ، وإن كان – في الأغلب – كذلك ، باعتبار ضعفهم وقصورهم عن تولي
الحكم في المجتمع. وأما الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية ، ففتواه هي القانون
العام ، وتدريبه هو التوجيه السياسي العام لاطلاع الشعب على آلامهم وآمالهم وحلول
مشاكلهم . ويقوم بنفسه أو نائبه الخاص بإقامة صلاة الجمعة وخطبتها . وأما تدريس
العلوم العربية ، بل والفقة أيضاً ... وأما إقامة صلاة الجماعة في سائر الأيام ،
فقد تكون مسؤوليات الرئيس وتعقد أعماله مانعاً عن
الالتزام بها والاستمرار عليها . وإنما يوكل ذلك إلى غيره من ذوي الكفاءة
الاسلامية ، كما يوكل القضاء أيضاً وجانب كبير من السلطة التنفيذية إليهم أيضاً .
وكل ذلك مما لم يعرب عنه الراوي في مدينته ، فتكون مدينة ناقصة إسلامياً غير
فاضلة .
صفحة (85)
الأمر الثالث :
ما هو موجود بين أغلب أهل المذاهب الإسلامية ، على اختلافها ، من التأكيد على
الاتجاه المذهبي ، وغض النظر عن المفهوم الإسلامي العام . وهذا بعيد عن تعاليم
الإسلام كل البعد . مع أن هذا موجود بوضوح في المجتمع المزعوم على مستويين :
المستوى الأول : الجدل المطول العميق الذي اهتم به الحاكم في المجتمع المفروض ...
ذلك الجدل القائم على أساس مذهبي خالص . فقد كان مهتماً بإثبات صدق أحد المذاهب
الإسلامية ضد المذاهب الأخرى ولم يكن مهتماً بإثبات صدق الإسلام ضد الأديان
والمبادئ الأخرى ، في حين كان بين الحاضرين مسيحي أو عدة مسيحيين ، لم يفكر هذا
الحاكم أن يناقشهم لإدخالهم في الإسلام . وهو من الأمور المؤسفة الشديدة الغرابة
.
المستوى الثاني :
عدم تصدي المجتمع المفروض ، مع أنه يتخذ شكل الدولة الإسلامية ، إلى هداية العالم
الخارجي ، لا بدعاية عامة ولا بحرب جهادية . مع أن من أوضح تعاليم الإسلام
وواجباته هو ولاية الدولة الإسلامية على العالم ووجوب هدايته إلى الحق . ولم تكد
تتخلى أي دولة إسلامية في التاريخ عن هذا الواجب ، بل طبقته بحسب الإمكان تطبيقاً
واقعياً أو شكلياً . فما بال هذه الدولة المزعومة قد تخلت عن هذا الواجب المقدس .
العامل الرابع :
تأثر الراوي بما سمعه عن اتجاهات الأئمة المعصومين عليهم السلام وأعمالهم ، حال
وجودهم قبل الغيبة .
ويظهر ذلك واضحاً في روايته في جهتين :
صفحة (86)
الناحية الأولى :
ما سمعه الرواي من إقامة الأئمة (ع) للمعجزات ونطقهم بالأخبار بالغيب . إذن
فينبغي – في رأيه – أن يكون حاكم تلك البلاد المزعومة ، مظهراً للمعجزات وناطقاً
بالمغيبات .
إلا أن ذلك لا يجب أن يكون موجوداً في الدولة الإسلامية ، فإن قيادتها وتدبير
الأمور فيها لا يعود إلى المعجزة بحال، بعد تمامية الحجة على شعبها في أول دخول
الإسلام إليهم أو دخولهم في الإسلام . وعلى ذلك قامت دولة النبي (ص) ، وحسبنا من
ذلك قوله (ص) : إنما اقتضى بينكم بالبينات والإيمان . وهو حديث صحيح مستفيض ،
يراد بالحصر فيه أنه (ص) لا يستعمل المعجزة وعلم الغيب المسبق في القضاء . وكذلك
الحال في سائر تدابير الدولة ، فيما لا يعود إلى إقامة الحجة بصلة .
وقد يخطر في الذهن : أن الأخبار بالغيب الذي صدر من حاكم تلك البلاد ، حين نادات
باسمه واسم أبيه ، كان من أجل إقامة الحجة عليه ، فيكون مطابقاً لقانون المعجزات
.
وجواب ذلك : إن هذا أمر محتمل ، ولكن ينافيه وجود مناسبات أخرى لإقامة الحجة في
ذلك المجتمع ، لم تقم فيها المعجزة . حيث كان هناك مسيحيون تجب هدايتهم إلى
الإسلام ، وكان هناك مسلمون من مذاهب أخرى ، اضطر الحاكم إلى الدخول معهم في جدل
طويل ، مع أنه كان يمكن أن يستغني بالمعجزة . ومن المعلوم أن هذه المناسبات أولى
من مجرد أخبار المسافر باسمه مع كونه متديناً على نفس المذهب والدين.
الناحية الثانية :
ما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى من تكريس الأئمة عليهم السلام ، الأعم الأغلب
من جهودهم في قيادة قواعدهم ومواليهم ، وتدبير شؤونهم ومحاولة دفع الأخطار عنهم .
إذن فينبغي أن تكون الدولة في عصر الغيبة على ذلك ، في رأي الراوي .
صفحة (87)
مع أن هذا الرأي مخدوش من جبهتين :
الأولى : أن الأئمة (ع) وإن كرسوا غالب جهودهم في سبيل ذلك الهدف ، إلا أن لهم
أعمالاً كثيرة على المستوى الإسلامي العام في الارتباط بعملاء المذاهب الأخرى
والتقرب إلى قواعدهم الشعبية ، كما سمعنا طرفاً منه في تاريخ الغيبة الصغرى ،
وهذا مما لم يلتفت إليه الراوي ليطبق مجتمعه عليه .
الثانية : إن الأئمة عليهم السلام إنما كرسوا جهودهم في قواعدهم الشعبية ،
باعتبار انعزالهم عن الحكم وبعدهم عن المستوى السياسي العالي ، بسبب ما كانوا
يواجهونه من الضغط والمطاردة من الجهاز الحاكم يومئذ .
وأما "المدينة الفاضلة" التي تكلم عنها الراوي ، فهي – لو صحت – تمثل دولة
إسلامية . والدولة الإسلامية يجب عليها أن تفرض سلطتها على كل المجتمع المسلم بما
فيه من مذاهب واتجاهات بل وبما فيه من أديان... بشكل متساو ، وتستهدف المصلحة
الإسلامية العليا بالنسبة إلى الجميع . وهذا حكم اتفقت عليه سائر المذاهب
الإسلامية، وطبقته كل الدول المسلمة على مر التاريخ .
ولا يجوز للدولة الإسلامية أن تقصر سلطانها على الشعب الموافق لها في المذهب بأي
حال من الأحوال . كما أراد هذا الراوي أن يقول .
ومعه فقد تحصل من هذا الاعتراض الثالث أن هناك ما لا يقل عن اثنتي عشرة جهة من
جهات النقص المهمة في التطبيقات الإسلامية ، في هذه المدينة الفاضلة . وبعضها
تكاد تكون من ضروريات الدين على مستوى الحكم الإسلامي العام .
إذن فهذا المجتمع المزعوم غير موجود ، إذ لو كان موجوداً وكان تحت الحكم المباشر
للمهدي (ع) وقيادته، لما أمكن أن يكون ناقصاً بأي حال .
إذن ، فانطلاقاً من هذه الاعتراضات الثلاثة ، واعتراضات أخرى لا مجال لتفصيلها ،
تسقط الروايتان للانباري والمازندراني عن الاعتبار ، ومعه فلا يبقى دليل تأسيس
المهدي (ع) في غيبته الكبرى مجتمعاً نموذجياً . وإنما هو مذخور للقيام بدولة الحق
والعدل في العالم كله في اليوم الموعود . عجل الله فرجه .
صفحة (88)
|