الشكل الثاني :

ما دل على سكنى المهدي (ع) في أماكن أخرى غير ما دلت عليه هاتان الروايتان ، كالمدينة المنورة ، في أحد الأخبار التي سمعناها ، وكالبراري والقفار في خبر آخر سمعناه .

ونحن وإن كنا قد ناقشنا في هذين الخبرين ، إلا أن ذلك لا ينافي وقوعها طرفاً للمعارضة مع الروايتين ، ليشاركا مع المجموعة في إسقاطهما عن الاعتبار . على أن هناك أخبار أخرى تدل على سكنى المهدي (ع) في أماكن أخرى، غير ما سبق ، لا حاجة إلى الإفاضة فيها فعلاً .

الشكل الثالث :

الأخبار الكثيرة الدالة على مشاهدة المهدي (ع) في غير هذه المدن المفروضة ... بكثرة لا يستهان بها ، على ما سيأتي في الفصل الآتي .

فتدل هذه الأخبار ، على وجود المهدي (ع) ردحاً من الزمن ، خارج تلك المناطق المفروضة ، بل أن سكناه الغالبة ليست هناك . وهو معنى على خلاف ما ادعته هاتان الروايتان من سكناه ووجوده الغالب في تلك المناطق .

إذ لو كانت سكناه هناك حقاً ، لم يكن مقابلته في خارج تلك المناطق ، إلا على سبيل الصدفة أو نتيجة للمعجزة . وكلاهما لا يمكن افتراض وقوعه في المقام : أما الصدفة ، فلكثرة المشاهدات إلى حد يقطع بتعمد الإمام المهدي (ع) لها وليست على سبيل الصدفة . وأما المعجزة فلعدم انطباق المورد على قانون المعجزات ، لعدم انحصار سبب إقامة الحجة على هذه المعجزة التي تقوم من أجل المقابلة .

بل يمكن القول : بأن الانطباع العام الذي تعطيه أخبار المقابلات مع المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، هو كونه ساكناً في العراق ، وإذا حصلت المقابلة في غير هذه البلاد ، فإنما هي لمصلحة مهمة اقتضتها . وهذا ما سيأتي التعرض له في الفصل الآتي مقروناً بالتبرير النظري الذي يبني عليه . ومن الواضح أن سكناه في العراق ينافي سكناه في تلك المدن المفروضة .

صفحة (80)

الشكل الرابع :

الخبر المتواتر عن النبي (ص) بألفاظ متقاربة ، من أن المهدي (ع) بعد ظهوره (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) .

وامتلاء الأرض جوراً وظلماً يستلزم أن أكر أهل الأرض بما فيهم أكثر أفراد المجتمع المسلم أيضاً ، أصبحوا ظالمين منحرفين ... بحيث لا يمكن افتراض وجود مجتمع كامل باق على إخلاصه الكامل للإسلام . ومثل هذا العموم المعطى في هذا الحديث غير قابل للتخصيص والاستثناء . ومعه فوجود مجتمع أو عدة مجتمعات برمتها باقية على إخلاصها للإسلام ، يكون معارضاً لذلك الخبر المتواتر لا محالة . ومهما تعارض الخبر الواحد مع المتواتر ، أخذنا بالمتواتر وطرحنا الخبر الواحد .

وقد يخطر في الذهن : أن المراد من الأرض التي تمتلئ ظلماً وجوراً ، في الحديث النبوي ، هو الأرض المنظورة ، كما هو الظاهر من لفظ الأرض ، دون الأرض المختفية ، كما دلت عليه هاتان الروايتان . ومعه فلا منافاة بين الحديث النبوي المتواتر وبينها .

وجواب ذلك : أننا عرفنا في الاعتراض الأول أن هاتين الروايتين دالتان على عدم اختفاء المدن التي تخبر عن وجودها . وإنما كان اختفاؤها رأياً لبعض الباحثين وقد ناقشناه . ومعه تكون هذه المدن – على تقدير وجودها – من الأرض المنظورة ، فيشملها الحديث النبوي ، فيدل على عدم وجودها .

وقد يخطر في الذهن أيضاً : أن هذه المجتمعات وجدت مخلصة للإسلام خلال الغيبة الكبرى ، وهذا لا ينافي كونها تصبح منحرفة بعد ذلك قبل ظهور المهدي (ع) ليصدق الحديث النبوي الشريف .

وجواب ذلك : إن هذه المجتمعات المفروضة ، قائمة على أساس الدوام والاستمرار في نظامها الإسلامي ، وغير قابلة للانحراف ، بعد الالتفاف إلى كونها تحت الإشراف الدائم للإمام المهدي (ع) نفسه ، كما نطقت به تانك الروايتان .

هذا ... وهناك غير هذه الأشكال من الروايات الصالحة لمعارضة الروايتين ، مما لا نريد الإطالة بذكره ، وهو لا يخفى على المتتبع المتأمل .

صفحة (81)

الاعتراض الثالث :

إن المجتمع المزعوم غير منسجم مع عدد من تعاليم الإسلام المهمة ، في تكوينه الفكري ونظامه الاجتماعي . فهو مجتمع إسلامي ناقص من حيث التطبيق . إذن فالمهدي (ع) لم يؤسسه إذ أن المجتمع الذي يكون المهدي (ع) مؤسساً له ومشرفاً عليه ، لا يكون إلا مجتمعاً كاملاً عادلاً من جميع الجهات . وخاصة بعد أن تتربى عدة أجيال تحت هذا الإشراف ، في جو من الصيانة والحفظ عن الأعداء ، كما هو المفروض في هذه المجتمعات .

ويمكن أن ننطلق إلى بيان هذا النقص عن طريق العوامل التي تدخلت في ذهن الراوي ، خلال روايته ، وقد مزج بينها مزجاً عجيباً ليعرف عن فكرته في تكوين المجتمع العادل و"المدينة الفاضلة" . ونقصد بالراوي كلاً من النباري والمازندراني اللذان رويا تينك الروايتين .

العامل الأول :

العامل الحضاري أو المدني – بالأصح – ، ذلك الذي كان يعيشه الراوي في القرنين السادس والسابع الهجريين . وقد اتضح تأثره بهذا العامل من عدة أمور ذكرها خلال الرواية :

الأمر الأول :

وجود أسوار وأبراج وقلاع للمدينة تجاه البحر ، فإن هذه هي وسيلة الدفاع الأساسية في تلك القرون .

الأمر الثاني :

وجود ماء صاف يوجب غرق السفن المعتدية . وقد كانت السفن البحرية أهم أساليب الهجوم في ذلك العصر .

الأمر الثالث :

إن الراوي أكد على وجود مساجد وحمامات وأسواق كثيرة ، وهي المؤسسات الأساسية المشار إليها في كل مدينة في ذلك الزمان . ولو كان الراوي يعرف المدارس والمستشفيات والجمعيات ونحو ذلك ، لقال أنها موجودة هناك أيضاً .

صفحة (82)

الأمر الرابع :

انعدام الإشارة إلى التجارة في كلتا الروايتين ، وظهورهما بانحصار سبل العيش بالزراعة تقريباً ، إلا ما كان من قبيل التجارات السوقية الصغيرة والحرف اليدوية .

الأمر الخامس :

التأكيد على وجود ريف واسع يحيط بكل مدينة ، يتكون من قرى كثيرة . وهذا هو الشكل الذي كانت عيه المدن بشكل أو آخر ، في عصر الراوي ، وكان الريف ناشئاً من الشكل الإقطاعي والطبقي للمجتمع ، ومن هنا حصل التمييز بين القرية والمدينة . وهو مما لا يعترف به نظام الإسلام .
وهناك أمور أخرى غير هذه ، لا حاجة إلى سردها .ونستطيع أن نؤكد أن المجتمع الذي يكون بإشراف المهدي(ع)، حيث تتربى الأجيال برأيه وقانونه ، لا يمكن أن يبقى ذو صبغة مدنية واطئة ، كما وصفة الراوي ... لا أقل من وجود فكرة مبسطة عن المدارس والمستشفيات والتجارة ، ومحاولة لتطوير وسائل الدفاع ، وتطوير القرى وتثقيف أهلها لكي يصل المجتمع إلى العدل الكامل .

العامل الثاني :

العامل الفكري أو الاتجاه السياسي المركوز في ذهن الرواي نتيجة لشكل الحكم السائد في الدول في تلك العصور .

فكما أن الدول كان في الأعم الأغلب محكومة لملوك مستبدين ، يكون الملك فيها هو الحاكم بأمره ، المطلق العنان في التصرف ، وليس له مجلس وزراء ولا برلمان ولا لجنة استشارية ولا هيئة قضائية ، ولا أي شيء من هذا القبيل . بل هو أما أن يمارس ذلك بنفسه إن استطاع ، وأما أن يهمل ذلك إهمالاً ... فكذلك ينبغي أن يكون المجتمع العادل ، في رأي الراوي .

مع أن هذا بعيد عن روح الإسلام كل البعد ، فإن الإسلام وإن كان يرى للرئيس صلاحية مطلقة في التصرف، إلا أنه لا توقع منه القيام فعلاً بكل شيء . بل أنه يزع صلاحياته على المؤمنين الموثوقين من شعبه ، كل حسب قابليته وموهبته . فهناك قضاة وهناك مستشارين وهناك سلطة تنفيذية كاملة ، بحسب ما يحتاجه كل ظرف من سلطات .

صفحة (83)

وهذا ما أسقطه الرواي بالمرة من مدينته الفاضلة . فيكون هذا المجتمع ناقصاً من حيث التطبيق الإسلامي نقصاناً كبيراً .

وقد يخطر في الذهن : بأن التدبير المباشر حيث كان موكولاً إلى المهدي (ع) عن طريق المراسلة ، فلا حاجة إلى كل هذه التشكيلات .

وجواب ذلك :

إن هذا الإشراف يقتضي الإمساك بالزمام الأعلى للدولة وتحديد سياستها العامة وقواعدها الكلية من الناحية القانونية والاجتماعية والعقائدية . وأما البت في جزيئات الأمور لملايين الناس ، فهو مما يتعذر إيجاده بالمراسلة كما هو معلوم ، إلا عن طريق المعجزة . المعجزة لا تكون هي الأساس أصلاً في العمل الإسلامي وقيادة الدول ، بعد تمامية الحجة على الناس .

وقد يخطر في الذهن ، أن النبي (ص) كان يقود الأمة الإسلامية بمفرده ، فكذلك ينبغي أن يكون عليه الرئيس الإسلامي في كل عصر .

وجوابه :
إن هناك فروقاً بين النبي (ص) وبين غيره عامة وهؤلاء الذين يحكمون هذا المدن المزعومة خاصة ، نذكر منها فرقين :

الفرق الأول :

إن المسلمين كانوا قلة نسبياً وكانت حاجاتهم بسيطة ودخلهم الاقتصادي واطئ ، فكانت القيادة الاجتماعية لشخص واحد عبقري كالنبي (ص) بمكان من الإمكان . وأما عند تكثر الناس وتعقد الحاجات وسعة الدولة، فلا يكون ذلك ممكناً بأي حال ، مهما كان القائد عبقرياً ، لوضوح ، استحالة النظر في مئات القضايا في وقت قصير .

الفرق الثاني :

إن النبي (ص) كان يقود مجتمعه بالصراحة والمواجهة ، على حين تقول الرواية أن المهدي (ع) يقود ذلك المجتمع بالمراسلة . ومن الواضح أن ما تنتجه المراسلة لا يمكن أن يصل إلى نتائج المواجهة بأي حال .

صفحة (84)