ويحكم هذه المجتمعات حاكم واحد ، كما في رواية المازندراني ، أو عدة حكام ، كما
في رواية الإنباري ... منصوبين من قبل الإمام المهدي عليه السلام ، بحيث يعتبر
أهم حاكم نائباً خاصاً له عليه السلام . ومن ثم فهو يقيم صلاة الجمعة ، لتحقق شرط
وجوبها ، وهو وجوبها ، وهو وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاص .
وهو الذي يقيم صلاة الجماعة في كل وقت ، وهو الذي يفتي الناس بالمسائل الشرعية ،
ويقضي بينهم . بل تنص رواية المازندراني أنه يدرس العلوم العربية وأصول الدين
والفقه الذي تلقاه عن صاحب الأمر المهدي عليه السلام. وهو الذي يجادل عن المذهب
إن لزم الأمر ، ويكون جداله حاداً وصريحاً ، ويكون هو الظاهر في الجدال على خصمه
على طول الخط . وله من الكرم وحسن الضيافة الشيء الكثير .
وقد سبق أن عرفنا أسماء عدد من حكام تلك البلاد . وقد كان منهم خمسة من أولاد
المهدي (ع) نفسه ، في رواية الإنباري ، وواحد من أحفاده في رواية الشيء
المازندراني .
يطاع الحاكم هناك من قبل شعبه إطاعة تامة ، وله فيهم الكلمة النهائية ، وله في
قلوبهم المهابة والوقار . وقد يخبر بما ينبغي أن يكون جاهلاً به عادة ، كاسم
الشخص المسافر الطارئ على البلاد ، فيكون هذا آية صدقه وأساس حكمه . وليس هو
اخباراً بالغيب وإنما يرويه عن الإمام المهدي (ع) ولو بالواسطة ، والإمام المهدي
(ع) عالم بتعاليم الله عز وجل إياه ، بالإلهام أو نحوه . ومن هنا يقول الرواي :
فقلت : ومن أين تعرفني باسمي واسم أبي ؟ قال : أعلم أنه قد تقدم إليّ وصفك وأصلك
ومعرفة اسمك وشخصك وهيئتك واسم أبيك رحمه الله(1) . وإنما تقدم ذلك
إليه من المهدي عليه السلام .
والمهدي (ع) يسكن في تلك المجتمعات نفسها بنحو منعزل لا يراه حتى الحكام أنفسهم
بالرغم مما يتصفون به من إخلاص ووثاقة . وإذا خرج إلى الحج أو إلى أي مكان آخر ،
فإن يعود إليها تارةً أخرى .
ــــــــــــــــــ
(1) البحار ، جـ 13 ، ص 140 .
صفحة (75)
وهو يعطي تعليماته للحاكم عن طريق المراسلة ، فيما يحتاجه من البت في أمور الناس
من المحاكمات وغيرها ، كما تنص على ذلك رواية المازندراني . وبذلك يكون له
الإشراف المباشر على سائر هذه الدولة النموذجية ، ويبقى ذكره فيها حياً وقانونه
نافذاً . وتتربى الأجيال على الإخلاص له وانتظار فرجه ، وهو أمر عام بين سائر
أفراد الشعب هناك إلى حد لا يكادون يقسمون إلا به في كلامهم الاعتيادي .
فهذا هو الوصف العام لهذا المجتمع النموذجي الذي دلت عليه هاتان الروايتان . إلا
أنهما لا يمكن أن يكون لهما جانب من الصحة على الإطلاق . وذلك لوجود عدة اعتراضات
نذكر منها ثلاثة رئيسية :
الاعتراض الأول :
إن الكرة الأرضية الآن ، بل فيما قبل الآن مرت بعدة قرون ، قد عرفت شبراً شبراً
ومسحت متراً متراً ، واطلع الناس على خفاياها وزواياها . وبالرغم من ذلك لم يجد
أحد تلك المناطق ولا اطلع على وجود تلك الجزائر والمدن. ولو كانت موجودة لعرفت
يقيناً ، ولكانت من أهم العالم الإسلامي . إذن فهي غير موجود قطعاص .
وأما الزعم بأنها برمتها مختفية عن الأنظار ، كما هو حال المهدي نفسه ، لو صحت
أطروحة خفاء الشخص ... فهو ما حاول بعض الباحثين أن يقوله(1) مستشهداً
بسعة قدرة الله تعالى ، وبما روي من أن رسول الله (ص) كان أحياناً يختفي عن كفار
قريش في أثناء صلاته .
إلا أن هذا الاستدلال يثبت الإمكان العقلي لاختفاء هذه المدن ، ولكنه لا يثبت
وقوعه فعلاً . ونحن نعترف بسعة قدرة الله تعالى على ذلك وما هو أهم منه وأوسع .
إلا أننا ننفي وقوع ذلك خارجاً ، ونثبت الفرق بين اختفاء المهدي (ع) والنبي (ص)
من ناحية ، واختفاء هذه البلدان من ناحية أخرى .
فإن اختفاء المهدي (ع) والنبي (ص) إنما يتحقق لتوقف حياتهما عليه تلك الحياة
المذخورة لهداية الناس وإكمال الحجة عليهم ، فيتكون الاختفاء مطابقاً مع قانون
المعجزات ، وهو أنه مهما توقف إكمال الحجة على المعجزة أوجدها الله
جزماً ، وخرق بها النواميس الطبيعية ، ولا توجد المعجزة في خارج هذا الحد . وبذلك
سبق أن نفينا الأطروحة الأولى ، لعدم احتياج المهدي (ع) في سلامته إلى الاختفاء
الدائم .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر النجم الثاقب ، ص 227 .
صفحة (76)
وأما بالنسبة إلى بلد أو مجتمع مسلم ، يختفي اختفاء شخصياً برمته ، كما يدعي هذا
الباحث ... فليس الأمر فيه أن إقامة الحجة أو إكمالها متوقف على وجود المعجزة .
فإن المفروض أن أفراد المجتمع قد اعتنقوا الإسلام وأخلصوا له وتمت حجته عليهم .
فأي حجة تبقى بعد ذلك لنحتاج إلى المعجزة . وإنما المفروض أن سلامته من الأعداء
متوقف على اختفائه ... إلا أن ذلك مما لا يعرف في الإسلام ، وهو خارج عن القانون
العام لإقامة المعجزات . إذن فالمعجزة غير متحققة ، فلو كان موجوداً لكان ظاهراً
لا محالة . ولو كان ظاهراً لكان معروفاً . وحيث أنه غير معروف ولا ظاهر ، إذن فهو
غير موجود .
ولو صح اختفاء مجتمع ملسم لسلامته من الاعتداء ، لصح اختفاء مجتمعات مسلمة كثيرة
تعرضت للغارات العديدة على مر التاريخ . على أن ذلك لم يحدث . ولو كان قانون
المعجزات يوجب حدوث ذلك ، لحدث على أي حال .
وقد يقال : بأن لهذا المجتمع المفترض خصوصية كبرى تميزه عن سائر المجتمعات ، وهو
وجود الإمام المهدي فيه، فمن الجائز أن يخصه الله تعالى بالاختفاء .
إلا أن هذه الفكرة غير صحيحة بالمرة . إذ لو توقفت سلامة الإمام عليه السلام
وبقائه وغيبته ، على غياب هذه المدن ، لكان أمراً صحيحاً . إلا أن هذا التوقف غير
موجود بالمرة ، إذ قد عرفنا بأن الإمام المهدي (ع) يمكنه أن يحرز سلامته وغيبته
في أي مكان من العالم على كلا الأطروحتين الرئيسيتين . ومعه لا تبقى لذلك المجتمع
أي خصوصية من هذه الناحية .
بل من المستطاع القول ، بالنسبة إلى ما ذكرناه من إتمام الحجة : أنه ليس فقط أن
إقامة الحجة على هذا المجتمع لا يتوقف على اختفائه كما قلنا ، بل أن إكمال الحجة
عليه يتوقف على ظهوره وكونه جزءاً من العالم البشري المنظور . وذلك انطلاقاً من
قانون التمحيص الإلهي الثابت عقلاً ونقلاً ، على ما سنفصله في باب قادم من هذا
التاريخ .
صفحة (77)
فإن الفرد المسلم والمجتمع المسلم ، كلما واجه التيارات الكافرة على مختلف
مستوياتها ، وصمد تجاه الانحرافات الجائرة ، وضحى في سبيل دينه ، كلما يكون
إيمانه أقوى وأرسخ ، وإرادته أمضى وأعظم . فاصطدامه مع الكفر والانحراف في حرب
جسدية أو عقائدية ، جزء من المخطط الإلهي للتمحيص والامتحان ... وليهلك من هلك عن
بينة ، ويحيى من حيى عن بينة . وبذلك يكون إكمال الحجة متوقفاً على هذا الاصطدام
، وسنى في مستقبل هذا التاريخ أن يوم الظهور الموعود للمهدي (ع) مما يتوقف على
هذا التمحيص . وهذا الاصطدام إنما يحدث والتمحيص إنما يتحقق ، فيما إذا كان
المجتمع ظاهراً للعيان متفاعلاً مع العالم الخارجي ، دون ما إذا كان مرتاحاً في
اختفائه منساقاً مع أحلامه .
إذن فالقانون العام للتمحيص وقانون المعجزات منافيان لاختفاء أي مجتمع مسلم
وانعزاله عن العالم ، ومعه فلو كان هذا المجتمع موجوداً لكان ظاهراً . وحيث أنه
غير ظاهر إذن فهو غير موجود .
وهذا هو مرادنا مما قلناه فيما سبق ، من أن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس
الذي تبتني عليه الأطروحة الأولى ، وقد عرفنا الآن أنه أسوأ حالاً وأشد بعداً من
الأطروحة الأولى بكثير حيث برهنا على بطلان تلك الأطروحة بالاستغناء عنها
بالأطروحة الثانية . وأما هذه المدن ، كفلا من قانوني المعجزات والتمحيص ، ينفيان
اختفاءهما بالضرورة .
وليت شعري ، لم يلتفت هذا الباحث الذي يدعي اختفاء هذه المدن الكثيرة ، إلى أن
سياق الروايتين الدالتين على وجودهما منافٍ مع هذه الفكرة : وذلك انطلاقاً من
نقطتين أساسيتين :
النقطة الأولى :
ما نصت عليه رواية المازندراني ، من أن البحر الأبيض إنما سمي بذلك لوجود ماء صاف
كماء الفرات حول الجزر، إذا دخلته سفن الأعداء غرقت بقدرة الله تعالى وبركة
المهدي عليه السلام .
فإن هذه الجزر إذا كانت مختفية عن الأنظار . كيف يهتدي إليها الأعداء . بل يكفي
اختفاؤها حماية لها كما هو واضح . فوجود مثل هذا الماء الصافي – لو
صح – أدل دليل على عدم الاختفاء .
صفحة (78)
النقطة الثانية :
إن الاختفاء لو كان صحيحاً ، لكان اللازم أن لا تنكشف هذه الجزر لأحد من الخارج
إلا لمن لديه القسم العالي من الإخلاص والوثاقة من المسلمين ، حيث يكون انكشافها
لغير هؤلاء الأفراد مظنة للخطر ، وطريقاً محتملاً لهجوم الأعداء ، بشكل أو آخر .
في حين أن قافلة هذا الراوي في البحر ، وصلت إلى هذه الجزر ، بما فيها من مسلمين
على اختلاف مستوياتهم ومذاهبهم ، وبما فيها من مسيحيين ! إذن فوجود هؤلاء يؤكد
عدم الاختفاء .
الاعتراض الثاني :
إن هاتين الروايتين للانباري والمازندراني ، منافيتان ومعارضتان ، مع عدد من
الأخبار الواردة بمضامين مختلفة ... تتفق كلها على نفي مضمون هاتين الروايتين ،
كل من ناحيته الخاصة . ومن الثابت أنه كلما تعارض الخبر والخبران مع مجموعة ضخمة
من الأخبار ، توجب القطع بمضمونها المشترك ، قدمت المجموعة الضخمة لا محالة، ولم
يبق للخبر والخبرين أي اعتبار .
وتتمثل هذه المجموعة المعارضة في هذا الصدد ، في عدة أشكال من الأخبار :
الشكل الأول :
أخبار التمحيص والامتحان الإلهي ، كقول الإمام الباقر عليه السلام :
هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا – يقول ثلاثاً – حتى يذهب الله
تعالى الكدر ويبقى الصفو . وقول الإمام الصادق عليه السلام : والله لتميزن .
والله لتمحصن . والله لتغربلن ، كما تعربل الزوان من القمح .
وهي أخبار كثيرة تدل على قانون الهي وقعت من أجله الغيبة الكبرى ، على ما سنوضح
في مستقبل هذا التاريخ . وهو قانون عام على كل البشر ، وغير قابل للتخصيص
باستثناء مجتمع أو عدة مجتمعات منه . وقد عرفنا أن الاختفاء عن الأنظار ينافي
معنى الاختبار والتمحيص ، ويستلزم عدم شمول هذا القانون
للمجتمع المختفي . ومعه تكون الأخبار الدالة على التمحيص دالة على نفي وجود مجتمع
غير مشمول لهذا القانون .
صفحة (79)
|