وهذا ما يستغنى عن إفتراضه بناء على هذه الأطروحة . إذ يمكن للمهدي (ع) أن يعاشر أي شخص كما عرفنا . نعم، يمكن أن يكون للثلاثين خصيصة الاطلاع على حقيقته ، وهو أمر لطيف ، إلا أنه لا يستلزم عدمهم وجود الوحدة الموحشة على أي حال .

النقطة الثالثة :

فيما تشترك فيه الروايتان من النص على اعتزال المهدي (ع) عن الناس .

وهذا يمكن حمله على أحد وجهين :

الوجه الأول : أن يفسر بالاعتزال النسبي ، يعني إعتزاله بصفته الحقيقية ، وإن كان مرتبطاً بالناس بصفته فرداً عادياً في المجتمع . وهذا الوجه قريب من أطروحة خفاء العنوان . إلا أنه مخالف لكلتا الروايتين في ظاهرهما ، كما يتضح لمن قرأهما .

الوجه الثاني : أن يعترف بعزلته عليه السلام ، بشكل مطلق . وهذا أقرب إلى أطروحة خفاء الشخص ، فإنها تستلزم العزلة المطلقة . ولكنه لا ينافي الأطروحة الأخرى لإمكان أن يرى المهدي (ع) حال انعزاله من دون أن تعرف حقيقته .

إلا إننا عرفنا أنه لا حاجة إلى افتراض مثل هذه العزلة مع خفاء العنوان . إن لم تكن بنفسها ملفته للنظر والتساؤل عن حقيقة هذا الفرد المنعزل وعن سبب انعزاله ، مما يثير حوله الانتباه .

فإذا لم يصح الوجه الأول ، كما لم يصح الوجه الثاني انطلاقاً من أطروحة خفاء العنوان ، الصحيحة ، لم يمكن القول بصحة المضمون المشترك بين الروايتين ، وإن كان مدعماً برواية ابن مهزيار أيضاً .

صفحة (70)

الأمر الثالث :

ما ورد من تسمية أولاده وسكنهم وأعمالهم .

تنص رواية الإنباري المشار إليها ، إن للحجة المهدي (ع) عدة أولاد في

الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط .

أحدهم : طاهر بن محمد بن الحسن . وهو يحكم إحدى تلك الجزر المسماة بالزاهرة(1) .

ثانيهم : قاسم بن محمد بن الحسن . هو يحكم الجزيرة المسماة بالرائقة(2) .

ثالثهم : إبراهيم بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة هناك تسمى بالصافية(3) .

رابعهم : عبد الرحمن بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة باسم طلوم(4) .

خامسهم : هاشم بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة باسم عناطيس(5) .

وكلهم يحكمون تحت الإشراف العام لأبيهم صاحب الأمر المهدي (ع) .

وإن لم تدل الرواية على أنهم يرونه ويجتمعون به أولاً .

وحيث أن الحادثة المروية بهذه الرواية مؤرخة بتاريخ القرن السادس الهجري(6) ، فيكون قد مضى على ولادة الإمام المهدي (ع) حوالي الأربعمائة سنة . ولا نحتمل طول عمر أولاده ولا زوجته بالشكل الخارج عن الطبيعي من أعمار الآخرين من الناس . إذن ، فلو صحت الرواية ، يتعين أن يكون قد تم زواجه ووجود أولاده في مثل ذلك العصر . وقد سبق أن ذكرنا أن ذلك إنما يتم فيما لو كان المهدي (ع) قد وجد امرأة موثوقة في أعلى درجات الإخلاص ، بحيث تعرفه وتساعده على إخفاء نفسه حتى على أولاده ، وإن كانت قد لا تخفي عنهم انتسابهم إليه .

أما زواجه في العصور المتقدمة على ذلك ، أو العصور المتأخرة عنه ، أو وجود ذرية له فيها ، فلا تتعرض له الرواية . فيبقى محولاً على متقضى القواعد السابقة .
ــــــــــــــــــ
(1) النجم الثاقب ، ص 220 – 221 .  (2) نفس المصدر ، ص 222 .  (3) و (4) و (5) المصدر والصفحة .
(6) المصدر ، ص 217 .

صفحة (71)

وأما صحة هذه الرواية ، فقد سبقت الإشارة إلى عدم صحتها ، وسيأتي تفصيل ذلك الأمر الآتي :

وأما رواية المازندراني المشابهة لها في المضمون ، فهي مؤرخة في القرن السابع الهجري .. تدل على وجود عدة جزائر في البحر الأبيض أيضاً أكبرها المسماة بـِ (الخضراء) يحكمها نائب خاص عن الإمام المهدي (ع) ، يسمى بمحمد ويلقب بشمس الدين ، وهو من ذرية المهدي ، وبينهما خمسة آباء(1) . لكن لا يتضح انتسابه إلى أي من الأولاد السابقين .

ولعل هناك شي من البعد في تسلسل خمسة أجيال خلال قرن من الزمن ، إلا بتقدير تعدد زواجه أو سرعة تناسل أولاده .

والظاهر من هذه الرواية عدم وجود أولاد المهدي (ع) المباشرين بل من بعدهم أيضاً ، وإلا لما أصبح حفيده الخامس حاكماً هناك ، دونهم . وخاصة وإن الرواية تنص على أن آباءه أفضل منه ، بقرينة عدم مشاهدته للإمام (ع) ، وأما أبوه فقد سمع صوته ولم ير شخصه ، وأما جده فقد رأى شخصه وسمع صوته(2) . وكلما كان الفرد أقرب ارتباطاً بالمهدي (ع) دل ذلك على زيادة في فضله وإخلاصه .
وحساب هذه الرواية ، من حيث أصل صحتها واعتبارها ، موكول إلى الأمر الرابع الآتي .
ــــــــــــــــــ
(1) البحار ، جـ 13 ، ص 146 .  (2) المصدر والصفحة السابقة .

صفحة (72)

الأمر الرابع :

تأسيس المهدي (ع) في غيبته الكبرى مجتمعاً إسلامياً نموذجياً .. أو عدم صحة ذلك .

يدل على تأسيسه لمثل هذا المجتمع ، الروايتان المشار إليهما فيما سبق للإنبار والمازندراني .. وتنفيه سائر القرائن الأخرى من عقلية ونقلية على ما يأتي . 

ونود أن ندرس فيما يلي الخصائص العامة الفكرية والاجتماعية والعلمية والسياسية لهذا المجتمع النموذجي ، وما أنتجته هذه الخصائص فيه من مستوى من الرفاه والازدهار في الزراعة والتجارة .

ولا يخفى أننا بعد أن نناقش في أصل هاتين الروايتين وصحتهما ، فسوف لن تبقى لهذه الخصائص قيمة من وجهة نظر إسلامية موضوعية ، إلا باعتبارها صحيحة في نظر الراوي وبحسب فهمه الخاص . وإنما ندرسها الآن بصفتها ممثلة لوجهة نظر بعض المسلمين تجاه شكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية عامة والنظام المهدوي خاصة . وسننطلق بعد ذلك إلى تطبيقه على القواعد والأدلة الإسلامية الحقة .

تتفق الروايتان : على أن هناك مدن كبيرة وكثيرة على ساحل البحر ، ربما كانت في بر إحدى القارات ، وربما كانت في جزائر ضخمة في أحد البحار . وتنص رواية المازندراني على أنه هو البحر الأبيض المتوسط . وإن هذه الجزائر هي السبب في تسميته البحر الأبيض لأنها محاطة ماء أبيض صاف كماء الفرات يختلف لونه عن لون سائر ماء البحر ، إذا وردت فيه سفن الكفار والمحاربين غرقت بقدرة الله تعالى وبركة الإمام المهدي عليه السلام.

وتشكل هذه المجموعة رقعة مهمة من الأرض ، لأن إحدى المدن تبعد عن الأخرى بمقدار مسير إثني عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً ، بحراً أو براً ، بوسائط النقل التي كانت سائدة يومئذ في القرنين السادس والسابع الهجريين .

وهي مسافة تكون بالتقريب مثل ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة في الحجاز أو بين البصرة وبغداد في العراق. وبالرغم من سعة هذه المساحة ، فإنه مليئة بالبساتين والقرى ، التي قد تصل إلى ألف ومائتي قرية لكل مدينة . ومعه يمكن تقدير سكانها بما لا يقل عن عشرة ملايين من البشر . فتكون بذلك دولة متوسطة الحجم ، يمكن أن تشكل المجتمع النموذجي الإسلامي على أحسن طراز .

صفحة (73)

وتتصف هذه المجموعة بالجمال الطبيعي والرفاه الاقتصادي إلى حد بعيد ، بحيث تخون اللغة لسان الراوي في وصفه. ويكفينا من ذلك أن أكثر دورها مبنية بالرخام الشفاف ، ويحيط كل مدينة مئات المزارع والبساتين ذات الهواء الطلق والفواكه العديدة .

وتنص رواية الإنباري بأن الذئاب والغنم يعيشون في هذه المزارع بصداقة وألفة . وأن السباع والهوام مطلقو السراح ما بين الناس ، من دون أن يضروا أحداً أو يوجبوا حادثاً أو مرضاً .

وتشتمل المدن على أسواق كثيرة فيها من الأمتعة المعروضة ما لا يوصف ولا يتناهى . وفيها حمامات كثيرة . وفيها مسجد أعظم يجتمع الناس لإقامة الصلاة . وتوجد حول المدينة أسوار وقلاع وأبراج عالية من جهة البحر ، لأجل أن تزداد منعة وقوة .

وأما دين الشعب الساكن في هذه البلاد ، فهو الإسلام على المذهب الإمامي الإثنا عشري .

وأما أخلاقهم الكريمة ، فحدث عنها ولا حرج ، يصفها الإنباري بأنها أحسن أخلاق على وجه الأرض . فهم في الأمانة والتدين والصدق بلا مثيل ، وكلامهم خال من اللغو والغيبة والسفاهة والكذب والنميمة . ويؤدون الحقوق المالية الشرعية . وتسود معاملاتهم روح الثقة وحسن الظن إلى حد يقول البائع للمشتري: زن لنفسك وخذ ، فإن أخذك لحقك غير متوقف على وجودي . وبمجرد أن يعلن المؤذن دخول وقت الصلاة ، يترك الناس أعمالهم ويتوجهون رجالاً ونساءً إلى أدائها .

وتتصف مجتمعات هذه المدن بالتضامن والألفة ، فإذا احتاجت بعض الجزر أو المدن إلى مساعدة ، أو كانت خالية من الزراعة ، أرسلت إليها الميرة والبضائع الكثيرة ، من المدن الأخرى الحافلة بالخير والبركات، تبرعاً دون مقابل.

صفحة (74)