في مقابلاته عليه السلام خلال غيبته الكبرى والمصالح والأهداف
التي يتوخاها من ورائها
وينبغي أن ننطلق إلى الحديث عن ذلك في ضمن جهتين رئيسيتين ، باعتبار انقسام
الحديث ، تارة إلى ما تقتضيه القواعد العامة من ذلك ، وأخرى إلى ما تدل عليه
الروايات الناقلة لتفاصيل المقابلات .
الجهة الأولى :
فيما تقتضيه القواعد العامة من خصائص المقابلات :
ويقع الكلام في ذلك ، ضمن أمور :
الأمر الأول :
في أنه هل يرى المهدي (ع) على الدوام ، بحيث تستطيع أن تقابله وتحادثه متى سنح لك
ذلك ، أو لا .
يختلف الجواب على مثل هذا السؤال ، نتيجة للأخذ بإحدى لأطروحتين الرئيسيتين
السابقتين . فإن رأينا صحة أطروحة خفاء الشخص ، كان الجواب بالنفي لا محالة ، ما
لم تتعلق مصلحة خاصة وإرادة من قبل المهدي (ع) في الظهور والمقابلة .
صفحة (89)
وقد سبق أن أشرنا أنه باء على الأخذ بهذه الأطروحة يكون الشيء الدائم هو الاختفاء
الإعجازي ، وما هو الاستثناء هو الظهور الطبيعي المتقطع القليل
وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان ، وهي التي اخترناها واستدللنا على صحتها ،
فهنا مستويات ثلاثة للمقابلة :
المستوى الأول :
مقابلة المهدي (ع) بشخصيته الثانية ، حال كونه مجهول الحقيقة مغفولاً عنه بالمرة
.
وهذا المستوى متوفر دائماً للناس الذي يعايشونه في مجتمع أو الذين يصادفونه في أي
مكان كان . طبقاً لمفهوم هذه الأطروحة .
المستوى الثاني :
مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع عدم الالتفات إلى ذلك إلا بعد انتهاء
المقابلة .
وهذا المستوى هو الذي سارت عليه المقابلات الاعتيادية المروية ، على ما سنسمع في
الجهة الثانية من هذا الفصل مشفوعاً بالتبرير النظري له .
المستوى الثالث :
مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع الالتفات إلى ذلك في أثناء المقابلة .
وهذا المستوى قليل في روايات المشاهدة جداً ، باعتبار كونه مخالفاً في الأغلب
للمصلحة ، ومنافياً للغيبة التامة ، على ما سنسمع.
الأمر الثاني :
في كيفية المقابلة معه عليه السلام .
ويختلف ذلك أيضاً باختلاف الأطروحتين الرئيسيتين :
أما بناء على الأخذ بالأطروحة الأولى ، فتحتاج المقابلة إلى عدة معجزات ، بعد أن
عرفنا أن مفهوم هذه الأطروحة يتضمن الاختفاء الإعجازي الدائم . ولا يمكن أن تحدث
المقابلة مع استمرار الاختفاء بطبيعة الحال ، إذن فلا بد من حدوث عدة معجزات
لإتمام الغرض من المقابلة .
المعجزة الأولى :
ظهوره بعد استمرار الاختفاء بكل استثنائي ، اقتضته مصلحة خاصة .
وهذا الظهور يقطع الحالة الإعجازية الدائمة للاختفاء ، فيكون هو معجزة أيضاً .
صفحة (90)
المعجزة الثانية :
إقامة الحجة القاطعة على إثبات حقيقته وأنه هو المهدي (ع) . بحيث يثبت ذلك ولو
بعد انتهاء المقابلة .
وهذه المعجزة ضرورية لإثبات حقيقته ، بعد العلم أن الرائي جاهل بالمرة بشكل
الإمام المهدي (ع) وسحنته. ومن الواضح أنه لا يكفي للرائي مجرد إدعاء كونه هو
المهدي المقصود ، بل يحتاج لا محالة إلى إقامة الحجة بالمعجزة لإثباته .
المعجزة الثالثة :
اختفاؤه بعد الظهور ، وعوده إلى حالة الاختفاء الأولى بعد أن يكون قد أنجز
المطلوب من المقابلة .
فهذا ما تحتاجه المقابلة لو صحت الأطروحة الأولى .
وأما لو أخذنا بالأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، التي تقول : بأن الشيء
الدام بالنسبة إلى المهدي (ع) هو الظهور الشخصي مع خفاء العنوان ، كما سبق أن
أوضحناه ... فالمعجزة الأولى لا حاجة لها على الإطلاق . بل حسب المهدي (ع) أن
يقابل الفرد كأي إنسان آخر ، وينجز ما هو المطلوب من مقابلته ، ويعرفه بحقيقته ،
ولو بحسب النتيجة ، أي ولو بعد المقابلة .
كما لا حاجة ، في الأعم الأغلب إلى المعجزة الثالثة ، أعني الاختفاء بعد المقابلة
. بل يكون ذهاب المهدي (ع) بعد انتهائها طبيعياً ، ولو بتخطيط مسبق يقوم به
المهدي (ع) لأجل تنفيذ الذهاب بشكل لا يكون ملفتاً للنظر .
نعم ، لو وقع الإمام في ضيق وحرج عند مقابلته ، بحيث تعرضت غيبته العامة إلى
الخطر ، كان لا بد له من الإخفاء الإعجازي ، وهو مطابق – في مثل ذلك – لقانون
المعجزات ، لأن في حفظ غيبته تنفيذاً لليوم الموعود .
وأما المعجزة الثانية ، وهي التي تثبت بها حقيقته ... فهي مما لا بد منه في الأعم
الأغلب جداً من المقابلات . لما أشرنا إليه من أن الفرد حيث لا يعرف المهدي بشخصه
ولا يكفيه مجرد دعوى كونه هو المهدي (ع) ، كان لا بد من إقامة
الحجة لإثبات صدقه ، والحجة لا تكون إلا بالمعجزة ، ومن هنا كانت هذه المعجزة
مطابقة لقانون المعجزات.
صفحة (91)
نعم ، قد يستغنى أحياناً عن هذه المعجزة ، فيما إذا كان الشخص الرائي ممن يعرف
المهدي (ع) بشخصه وعنوانه. كما لو كان رآه في مرة سابقة وقامت الحجة لديه على
حقيقته ، ثم رآه ثانياً وعرفه ، فلا حاجة به إلى إقامة الحجة تارة أخرى . ومعه
يكون لقاؤه مع المهدي عليه السلام طبيعياً جداً ، من دون أن تقع أي معجزة .
والمثال الواضح لذلك هو السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى . فإنهم يعرفون المهدي
(ع) بشخصه وعنوانه ، ويأخذون منه التوقيعات . ومثاله في الغيبة الكبرى ما يظهر من
بعض الروايات أن الخاصة من المخلصين يجتمعون بالمهدي (ع) ويعرفونه ، على ما سيأتي
. كما يظهر من بعض الروايات أن السيد مهدي بحر العلوم كان كذلك أيضاً، على ما
سنسمع في أخبار المقابلات .
الأمر الثالث :
ماهي المصالح المتوخاة والأهداف المطلوبة للمهدي عليه السلام من مقابلته للآخرين
، بمقدار ما تهدينا إليه القواعد العامة . وسنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل
تفاصيل ذلك وتطبيقاته .
وما ينبغي أن يكون هدفاً له عليه السلام من المقابلات ، هو قيامه بالمسؤولية
الإسلامية ، بأحد الأنحاء التي سبق أن ذكرناها في الفصل الثاني من هذا القسم من
التاريخ ... فيما إذا انحصر تنفيذها على المقابلة مع الآخرين بالشخصية الحقيقية ،
ولم يمكن القيام بها حال الاستتار والجهل بالعنوان . وكانت الواقعة مشمولة للشروط
التي ذكرناها في ذلك الفصل لعمله الإسلامي المثمر في المجتمع ، سواء على الصعيد
الخاص أو الصعيد العام .
فقد يكون هدفه إنقاذ شخص من ضرر وقع عليه أو إنقاذ مجتمع من تعسف ظالم عليه . أو
هداية شخص وتقويمه من الانحراف العقائدي أو الكفر أو الانحراف السلوكي ، أو
الدفاع عن شخص أو مجتمع ضد الانحراف ، أو نحو
ذلك من الأهداف التي كنا قد حملنا عنها فكرة فيما سبق ... مع توفر شروط العمل
فيها لا محالة .
صفحة (92)
الأمر الرابع :
في كيفية حضور الإمام المهدي (ع) للمقابلة الصريحة ، مع الآخرين .
وإنما يثار التساؤل عن ذلك ، باعتبار ما قد يخطر في الذهن من أنه إذا كان الشخص
الذي يريد المهدي (ع) مقابلته بعيداً عنه ، بحيث يحتاج إلى سفر طويل . فما الذي
يمكن له أن يفعله . وذلك بعد الالتفات إلى نقطتين :
النقطة الأولى :
إن بعد المسافة هو الغالب في موارد عمل الإمام عليه السلام ، لأنها متفرقة على
وجه البسيطة . ومن هنا يضطر الإمام إلى السفر المتطاول دائماً لقضاء حوائج الناس
وحل مشاكلهم .
النقطة الثانية :
أنه قد يكون في كثرة الأسفار خطر على غيبته ومظنة لانكشاف أمره ، وخاصة بعد أن
فرض العمل عن طريق المقابلة بالشخصية الحقيقية .
والجواب على ذلك يكون بإعطاء عدة أساليب ممكنة للمقابلة ، وتذليل الصعوبة المشار
إليها في السؤال . مع الاعتراف أنه إذا لم يكن شيء منها ممكناً ، وكان فيها خطر
على غيبته ، فإن عليه السلام لا يمارس العمل ، لأن العمل نفسه وإن فرض جامعاً
للشرائط ، إلا أن الطريق إليه متعذراً ومقدماته خطرة ، وإيجاد العمل بدون مقدماته
ممتنع . إذن فينسد باب العمل جزماً .
وتتلخص الأساليب المحتملة في عدة وجوه تختلف باختلاف الموارد :
الوجه الأول :
أننا لا حاجة لأن نفترض كون الشخص الذي يريد المهدي مقابلته بعيداً . بل يمكن أن
يكون قريباً ، يعيش في نفس المجتمع الذي يعيش المهدي (ع) فيه ... فلا يحتاج إلى
سفر أو مضي مدة . سواء كان المهدي (ع) يعيش في ذلك المجتمع مختفياً ، طبقاً
للأطروحة الأولى ، أو ظاهراً مجهول العنوان ، طبقاً للأطروحة الثانية .
ومعه لا مجال للسؤال عن صعوبة المقابلة بأي حال .
صفحة (93)
|