|
||
|
فإنه لا يرد عليهم جملة من الاعتراضات التي كانت ترد على أولئك المؤرخين ، والسر في ذلك واضح : وهو أن الأئمة عليهم السلام وتابعيهم ، كانوا ولا زالوا يمثلون الجبهة الواعية المعارضة للجهاز الحاكم على طول التاريخ ، وقد بذلو في هذا السبيل كثيراً من التضحيات فمن غير المحتمل في المؤرخ الإمامي إذا كان مخلصاً غير منحرف ، أن يكون تابعاً للجهاز الحاكم الذي يعاديه ويثور عليه ، أو أن يكون أجيراً له أو "عضو شرف" يعيش على موائده . كما أنه من غير المحتمل أن يهمل ذكر الأئمة (ع) تحت أي ظرف من الظروف ، أو أن يجعل لهم في ذهنه زاوية مهملة أو في تاريخه قسطاً قليلاً ، بعد أن كان يؤمن بهم أئمة وسادة وقادة ومثلاً اسلاميين مبدأيين. إلا أن الشجون تتمثل عندهم في عدة جوانب : الجانب الأول : أخذهم بالتقية التي يؤمنون بها ويطبقونها في جوانب حياتهم . فإن الضغط الذي عاشوه ، كان يقلل من نشاطهم ويكفكف من أعمالهم ، ويثير لديهم الحذر والكتمان. فيحملهم على التلميح بدل التصريح والاختصار عوض التطويل . الجانب الثاني : ما تعرض له المسلمون بشكل عام ، والاماميون بشكل خاص ، من القتل والتشريد على أيدي أشرار خلق الله وأعداء دين الله . وكانت الحروب تنصب فيما تنصب عليه ، على المكتبات الفارهة الزاخرة ، فيضاف إلى إتلاف النفوس إتلاف الكتب ، بالإغراق والإحراق ، لأجل قطع الأجيال المقبلة عن دينها المقدس وعن حديث نبيها وأئمتها وتاريخ أبطالهم ، وفقههم وعقائدهم . وكانت أرقام الكتب التالفة ، في كل حرب من حروب التتار والمغول والصليبيين ، يرتفع إلى مئات الآلاف ، فكيف بالمجموع ؟!!
ومن المعلوم أن تلف هذه الكميات الهائلة من الكتب ، هو في الواقع تلف لكيمات هائلة من الثروة الفكرية الضخمة التي كان المجتمع المسلم زاخراً بها ، من أول ايامه ، ولم يبق منها اليوم إلا القليل . ومن هنا نحتمل ، بل نستطيع أن نتأكد ، أنه كان لمؤرخي الإمامية وعلمائها ، كلام أكثر ، ونقل أزيد عن أئمتهم ، سواء في الترجمة أو العلم أو العمل أو غير ذلك من جوانب الحياة . وقد تلف ذلك ولم يرد إلينا شيء منه . وقد أصبنا نتيجة لذلك بمحل فكري ، وحصل في تاريخنا الإسلامي فجوات مؤسفة ، من الصعب علينا التأكد مما يملؤها على وجه التحديد. ولكن النعمة الالهية والحكمة الأزلية ، الثابتة بمقتضى وعد الله تعالى في كتابه الكريم بأن يتم نوره ولو كره المشركون ، اقتضت بأن يبقى من الكتب لسد ما هو الضروري من حاجات العقائد والتاريخ والفقه وغيرها من الميادين الإسلامية. الجانب الثالث : وهو ما يعود إلى الأسلوب العام الذي مشى عليه مؤرخونا ، في حدود ما وصل إلينا من الكتب السالمة من التلف.
ونحن بهذا الصدد نستطيع أن نقسم مؤرخينا إلى قسمين : القسم الأول : من سار في أسلوبه التاريخي ، على غرار التاريخ العام الذي مشى عليه الأولون قبلهم . كالمسعودي واليعقوبي فقد ساروا ـ على خلاف اعتقادهم ـ على ترتيب تسلسل الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين ، واسهبوا في بيان التاريخ السياسي للسلطات الحاكمة ، ولم يعطوا لتاريخ الأئمة إلا القليل ، وإن كان أكثر بقليل من كثير من المؤرخين . وبذلك حرمنا هؤلاء المؤرخون ، من التاريخ الإمامي العام الذي يشمل سائر جوانب الحياة ، الذي يعطي جانب الأئمة عليهم السلام وأصحابهم من الاهتمام والشرح بقدر ما يعطي الجهاز الحاكم ، ويذكر للجيمع أعمالهم وأقوالهم بتجرد وإخلاص ، ويدع الحكم والتحليل للأجيال المقبلة . ولله في خلقه شؤون. القسم الثاني : من سار في تاريخه ، على طريقه سرد الأحاديث والروايات الواردة عن الأئمة أنفسهم ، بالشكل الذي وصلت إليهم على طريقة الرواية المسندة عنهم عليهم السلام . وهذا الذي ذكره هؤلاء المؤرخون ، أمثال الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والطبرسي وابن شهر أشوب ، هو المورد الوحيد الذي أغنانا بثروة مهمة من أخبار الأئمة (ع) وتراجم وأفعالهم وأقوالهم . وهو المصدر الأساسي الذي إذا ركن إليه الباحث ، فإنما يركن إلى تاريخ الأئمة مأخوذاً من تابعيهم وذويهم ، لا من الآخرين الذين لا يعتقدون بهم ، ولا يمتون إليهم في العقيدة بصلة .
|
|