|
||
|
لاحظ معي قول الراوي : فكان من المعتز ما كان، بما فيه من تعمد الإغماض وبعد الإشارة إلى مقتل المعتز. كما أن تعبير الإمام عن ذلك أشد غموضاً .وقد عرفنا إلى الآن تفاصيل الظروف التي اوجبت إغماض العبارتين ومثله في الغموض تنبؤه الآخر بقتل المعتز ، حيث يروي أن المعتز أمر سعيداً الحاجب بقتل الإمام بعيداً عن عيون الناس. قائلاً له : أخرج يا محمد إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق . قال الراوي :فجاء توقيعه عليه السلام إلينا – يعني إلى أصحابه -: الذي سمعتموه تكفونه . فخلع المعتز بعد ثلاث وقتل(1). ولا يخفى ما في هذه العبارة الغامضة تجاه الجهاز الحاكم ، من وضوح تجاه أصحابه عليه السلام ،ورفع لمعنوياتهم، أن يعلموا أن إمامهم وقائدهم المهدد سيقى على قيد الحياة .وأن الذي هدده هو الذي سيبوء بالفناء والدمار. مضافاً إلى أنها ستكون دليلاً جديداً على إيمانهم وصدق مقاعدهم ، عند تحقق النبوءة فتزيدهم قوة في العمل وتحملاً للتضحية في سبيل الحق . وأما بالنسبة إلى المهتدي العباسي ، فما قد يلاحظه التاريخ من كونه متخنثاً متديناً ، يتشبه بعمر بن عبد العزيز، وكان يواصل الصيام وكان يركع ويسجد إلى أن يدركه الصبح(2) وأنه بنى القبة للمظالم جلس فيها للعام والخص وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرم الشراب ونهى عن القيان واظهر العدل(3).....هذا وإن كان تقدماً نحو الحق بالنسبة إلى أسلافه وتخلصاً عن كثير من العثرات والإنحرافات التي وقعوا فيها ، إلا أنه على أي حال حق بمقدار فهمه وإدراكه ...حق مبتور ناقص .. لا يمكن أن يكون هو التطبيق الصحيح للإسلام . ــــــــــــــــــــ (1) المناقب ج3 ص531 (2) المروج ج4 ص103 (3) المصدر ص96
ومن ثم وقف الناس منه موقف الرافض المستنكر ، وذلك انطلاقاً من إحدى وجهتي النظر : وجهة النظر الأولى : وجهة من يجعل آلهه هواه، ويستصعب الحق والعدل ويستكين إلى اللهو واللعب الذي عودهم عليه الخلفاء السابقون. فكان مسلك هذا الرجل ضيقاً عليه وإحراجاً لموقفه . يمثل هذه الوجهة أكثر الشعب وأكثر القواد والوزراء والمنتفعين .بقول المسعودي : فثقلت وطأته على العامة والخاصة ، فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه(1). وجهة النظر الثانية: وجهة الإمام لحقيقة المشكلة الاجتماعية من ناحية وللعدل الاسلامي من ناحية اخرى. فليست المشكلة الاساسية في المجتمع ،ما ادركه المهتدي من سوء القضاء او انصراف الخليفة عن مصالح الناس او كثرة البذخ في البلاط او زيادة مكتسبات القواد ورواتبهم . فان كل ذلك وإن كان ظالماً خارجاً عن حكم الاسلام .الا ان ذلك كله فرع الحقيقة الكبرى للمشكلة ،وهو انحراف المجتمع اساساً عن العدل الاسلامي وعدم وعيه له وعدم استعداده لتطبيقه والتضحية في سبيله. والحل لا بد ان ينطلق من محاولة ايجاد الوعي وتثقيف الناس ،حتى يخضعوا للحكم العادل ويكون طيباً على نفوسهم. ــــــــــــــــــــ (1)المروج ج4ص96
كما ان العدل الاسلامي ليس هو ما يقضي به المهتدي . فإنه على أي حال ليس جامعاً لشرائط القاضي العادل في الاسلام. وبالنتيجة فإن هذا الرجل هو ثمرة لخط طويل ، منحرف – في نظر الإمام (ع) – وغاصب للحق الأولي الذي يؤمن به الإمام لنفسه ولآبائه .ومن ثم لم تكن سيرة المهتدي لتشفع تجاه الإمام بحيث يخرج بها هذا الرجل عن كونه ظالماً إلى كونه عادلاً. زد على ذلك ، أم هذا الرجل الذي يدعي العدل ، قد مارس سجن الإمام عليه السلام ، إذن فهو – على ما هو عليه – ممثل للحقد التقليدي للدولة العباسية تجاه الإمام . وقد صرح الإمام في سجنه لأحد أصحابه المسجونين معه قائلاً: في هذه الليلة يبتر الله عمره. قال الراوي : فلما أصبحنا ، شغب الأتراك وقتل المهتدي وولي المعتمد مكانه(1) .وإذا رجعنا إلى التاريخ العام نرى كيف أن الأتراك بقيادة بابكيال قاتلوه وحاججوه على سيرته وعزلوه وقتلوه. ومن طريف ما قالوا له: أن الرسول (ص) كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. وأنت إنما رجالك ما بين تركي وخزرجي وفرعاني ومغربي وغير ذلك من انواع المعاجم ..لا يعلمون ما يجب عليهم من امر آخرتهم ،وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة(2). ــــــــــــــــــــ (1) المناقب ج3ص535 (2) المروج ج4ص99
|
|