وكان أي تنازل منه يعني السعي ضد المصالح الإسلامية لهذه الجماهير ، وهو ما لا يخفى ما فيه من قبح وخيانة على الشخص الإعتيادي فضلاً عن القائد العام. مضافاً إلى أنه لو تنازل لشعرت الدولة بتنازله ... فكان في الإمكان أن ينال عندها أقصى الحظوة والمنزلة والراحة ... ولارتفع ما كان محاطاً به من المراقبة والضغط مع أنه كان يتزايد باستمرار ، حتى أن المتوكل في آخر أيامه انتهى به الأمر إلى زج الإمام في السجن على ما سنسمع.

إذن فلم يكن موقفه متضمناً لشيء من التنازل ، وإنما كان ناشئاً من المصالح والمبررات الآتية :

أولها : الضغط والإكراه : فإن السياسة العباسية حيث استقرت على دمج الإمام بالبلاط ، كان مقتضى رفض هذه السياسة والإنصراف عن إجابة دعواتهم والحضور في مجالسهم .... إعلاناً صريحاً للمعارضة ... أو على الأقل إثارة لشك الحكام بأن الإمام متصد للمعارضة وخارج على الدولة ، وكل ذلك مما لا يريده الإمام (ع) بمقتضى سياسته السلبية تجاه الدولة .....

ثانيهما : أن الإمام (ع) كان حذراً من براثن الدولة عليه وعلى مواليه . فكأنه أراد التصريح بشكل عملي بعدم وجود ما تخشى منه الدولة عنده ، وهذا ما يؤثر نفسياً في تخفيف الشك ضده ... ومعه فقد ينفتح مجال جديد لنشاط جديد.


صفحة (145)

 

ثالثها : أن الإمام حين يعيش بين أكناف حكام الدولة مع من يحيطهم من القواعد والبطانة والمنتفعين والخدم وغيرهم من مختلف الطبقات ..فإنه عليه السلام يستطيع بلباقة تامة واحتراس شديد وبمقدار الفرصة السانحة.. أن يقول الحق بينهم ويدافع عن قضيته بين ظهرانيهم ... وهناك احتمال كبير – يؤيده احترامهم لشخص المهدي وإكبارهم لعلمه ونسبه:- أن يصل كلامه إلى قلوب بعضهم ، فإن السياسي مضافاً إلى كونه حاكماً مصلحياً ، هو في عين الوقت إنسان ذو عقل وقلب. وقول الحق يجد طريقه في العقل والقلب من أضيق طريق.

وبذلك يكتسب الإمام العطف على قضيته في المستويات العليا من الدولة. وقد سبق أن حملنا فكرة عن مقدار نجاحه في ذلك ، ولعل فيما يأتي من البحث ما يضيف إلى ذلك شواهد أخرى .

رابعها : إن الكيان الحكومي يومئذ كان قائماً بالصراحة على المحسوبية ، تؤثر فيه المصالح الشخصية وتجد فيها الواسطات طريقها المستقيم.

وهذا وإن كان دالاً على انحدار الأمة إلى حضيض لا تغبط عليه على أي حال ، وغير ملائم مع اتجاهات الإمام  ومثله ...إلا أنه هو الواقع ..ومن الممكن الإستفادة من هذا الواقع بما ينفع الناس ويكون مصلحة لهم، لإذن فإتصال المهدي بالحكام مثل هذا الإتصال الوثيق يفتح أمامه فرصة أوسع للتوسط في تيسير حوائج اصحابه ومواليه وتخفيف ضرهم ودفع الأخطار عنهم ... بحسب ما يراه من المصلحة.

 

صفحة (146)

 

ولعلنا نستطيع أن نستوضح ملامح الموقف اللين الذي كان يقفه الإمام (ع) تجاه المتوكل من المثال التالي: فإن المتوكل ابتلي بقرحة وخراج أشرف على الموت ، وكان داؤه عند أطباء عصره منحصراً بأن يمس الجرح بحديدة فلم يجسر أحد أن يقوم بذلك لإحتمال أن المتوكل سوف يأمر بقتل من يقوم بذلك لما سيجده من الألم.

ووجلت أمه وجلاً شديداً ...وكانت تعتقد بالإمام (ع) وقربه من الله تعالى ...فنذرت أنه إذا عوفي أبنها المتكل فإنها تحمل إلى أبي الحسن الهادي عليه السلام مالاً جليلاً من مالها . ونبهها الفتح بن خاقان على أن تطلب من الإمام أن يصف دواء للمتوكل ..فأرسلت رسولاً بهذا الشأن إلى ألإمام . فقال عليه السلام : خذوا كسب الغنم فديفوه بماء الورد وضعوه على الخراج فإنه نافع بإذن الله .أقول : ولا يخفى ما في ذلك من ترطيب للجرح خفي سره على الطب القديم الذي كان يداوي الدمل بإمرار الحديد عليه !!

وعلى أي حال فقد هزأ من حضر مجلس المتوكل من هذا  الدواء باعتباره لم يسمع من طبيب . فينبري الفتح بن خاقان مدافعاً عن اقتراحه قائلاً : وما يضر من تجربة ما  قال ... فوالله إني لأرجو  الصلاح به.

فأحضروا هذا العقار ووضع على الخراج فانفتح وخرج ما كان فيه.

وبشرت أم المتوكل بعافية ولدها . فحملت إلى أبي الحسن عليه السلام عشرة الآف دينار مختومة بختمها ،من دون علم ولدها المتوكل .


صفحة (147)