النقطة الثالثة :

قضاء الإمام لحوائج أصحابه بحسب الإمكان. لعلنا قد تم لدينا ـ إلى حد الآن ـ التعرف على ما كان يعانيه أصحابه وقواعده الشعبية من ضيق في الحالة الإجتماعية والإقتصادية معاً ، نتيجة لإبعادهم عن المسرح العام سياسياً واجتماعياً ، وقد كان الإمام عليه السلام يتوخى من وراء مساعدتهم عدة فوائد :

أولاً : قضاء حوائجهم الخاصة.

ثانياً : تركيز ثقتهم به ، بصفته قائدهم الأعلى ومأملهم الأسمى عند الظروف القاسية ، والمعين عند عدم وجود المعين.

ثالثاً : تجديد نشاطهم الإجتماعي ، بحسب ما يراه لهم عليه السلام وتقتضيه سياسته في ذلك العصر . وهي ـ على ما عرفنا ـ : العمل في سبيل الله والعدل الإسلامي بشكل لا يثير الحقد والخطر عليهم .

وأهم ما يندرج في هذا الموقف : أنه دخل على الإمام جماعة من أفضل أصحابه وأوجههم عنده وعند قواعده الشعبية وهم : أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني . فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه . فقال عليه السلام لعثمان بن سعيد ، وكان وكيله : يا أبا عمرو ، ادفع إليه ثلاثين ألف دينار وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار ويعلق على ذلك علماؤنا: بان هذه معجزة لا يقدر عليها إلا الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا العطاء (1) .

ــــــــــــــــــــ

(1)    المناقب جـ 3 ص 512.
 

صفحة (142)

 

وأما نحن فيمكننا أن نكتشف من وراء ذلك ... الموقف القيادي المركزي الذي كان يقوم به الإمام بين قواعده الشعبية ومواليه . ذلك الموقف الذي كانت تحاول الدولة العباسية الحيلولة دونه ... ولم تكن موفقة في ذلك إلى حد كبير. فالإمام يستلم الأموال الطائلة ـ بالطرق السرية أو العلنية الممكنة ـ مما يكون لدى مواليه من الضرائب الإسلامية كالخراج والزكاة والخمس. وهذا ما يتضح أيضاً لمن راجع تاريخ آبائه عليهم السلام ، وسيأتي في تاريخ ولده الإمام الحسن العسكري عليه السلام ما يشبه ذلك .

وإنما يتم تسليم هذه الأموال لكي تصرف في المصالح الإسلامية الإجتماعية العامة ـ بعيداً عن العاصمة العباسية ـ في تلك المهام التي تقتض صرف عشرات الآلاف من الدنانير . ونحن مهما بلغ بنا الخيال ، لا يمكن أن نتصور وصول الدين ، في قضاء الحوائج الشخصية ، إلى ثلاثين ألفاً . إلا أن يكون ديناً في عمل إجتماعي واسع أكبر من المصالح الشخصية والمسؤولية العائلية .وخاصة في أمثال هؤلاء من الفقاء والورعين ، مضافاً إلى أننا رأينا الإمام عليه السلام يعطي الاثنين بدون طلب أو شكوى في دين .

وعلى أي حال فهذه هي الخطوط العامة لسياسة الإمام (ع) ، فيما تمثله من موقفيه الرئيسيين تجاه مواليه وتجاه الآخرين .


صفحة (143)

 

موقف الخلافة العباسية من الإمام :

أشرنا فيما سبق أن موقف الخلفاء العباسيين ، يتجلى ـ فيما وصل إلينا من النقل التاريخي ـ في خصوص المتوكل ، ولا يبدو لغيره أثر يذكر. وقد ذكرنا ما يمكن أن يكون سبباً لذلك . فمن هنا ينحصر عنواننا في المقام في موقف المتوكل من الإمام عليه السلام . ونستطيع أن نلخص موقفه في عدة نقاط :

النقطة الأولى : تحديه من الناحية العلمية ، كما سبق . وقد رأينا كيف يخرج الإمام ظافراً من هذا التحدي .

النقطة الثانية : تقريبه من البلاط ودمجه في حاشية الخلافة بمقدار الإمكان ، ليكون الإمام على طول الخط بين سمعهم وأبصارهم فلا تفوتهم منه شاردة ولا واردة . وقد رأينا مقدار نجاحهم الضئيل في ذلك .

وقد سبق أن لاحظنا أن هذا كان هو الهدف الأساسي من استقدام الإمام إلى العاصمة العباسية . وكان الإمام يعطي من نفسه بإزاء ذلك وكأنه يوافق الدولة العباسية على سياستها تجاهه . فكان يحضر موائدهم ويخرج في مواكبهم كما سمعنا . ونستطيع أن نفهم موقف الإمام (ع) هذا ، لا على أساس التنازل أو التسامح مع الدولة ، فإن هذا مما لا يمكن أن يكون من شخصية كشخصية الإمام المبدأية الإسلامية القائدة لجماهير قواعده الشعبية من المسلمين .


صفحة (144)