|
||
|
ما يرجع إلى معرفتنا بذلك التاريخ ومقدار اطلاعنا عليه وهو الذي يمثل الصورة التي اعطاها المؤرخون في كتبهم عن تلك الفترات وهل هي مطابقة للواقع أم لا ، وبأي مقدار كانت سة الصورة ودقتها وعمقه ؟ وإلى أي مدى كان فهم المصور المؤرخ واستيعابه للأحداث ، ولما وراءها من فلسفة وعلل ونتائج . لعل من مستأنف القول ... الخوض في البحث الذي يذكر عادة للطعن في أصل التاريخ وكيفية جمعه وترتيبه ، ويذكر لذلك عدة وجوه. الوجه الأول : إن المؤرخ ليس إلا بشراً مثلنا ، له ما لنا من جوانب القوة ، وعليه ما علينا من نقاط الضعف ، والمشاهد بيننا بالوجدان ، بأن قضية ما قد تقع في البلدة مثلاً يشاهدها المئات أو الآلاف ، إلا أننا نسمع من كل فرد شاهد عيان نقلاً لحوادثها يختلف عن نقل الآخر بقليل أو بكثير ، حتى أنه قد يصل الفرق إلى حد التناقض . هذا في المشاهدين ، فكيف الحال في النقل والرواية ، فإن الحال تزداد سوءاً ، ولا يكاد يبقى للحادثة المروية جسم. ولا روح. هذا في البلد الواحد ، والمشاهدين الكثيرين ، فكيف في بعد الزمان وتفرق المكان وقلة المشاهدين وطول سند الرواية ، كما هو متوفر في كتب التاريخ المتوفرة .
الوجه الثاني : إن المؤرخ ، كأي إنسان ، ليس إلا مزيجاً غريباً من مجموعة من عواطف وغرائز وعقائد ومسبقات ذهنية وعادات حياتية . ولا يمثل العقل والفكر منه إلا بعضها من هذا المزيج ، والمؤرخ وإن كان يتخيل ويفترض أن يكتب تاريخه بعقله وفكره ، إلا أن هذا واضح البطلان . وإنما هو يكتب تاريخه بمجموعة عواطفه وسائر مرتكزاته ، وبخاصة في الحوادث التاريخية التي تقترن بخلاف بين جماعتين ، أو بعواطف معينة . الوجه الثالث :
إن هناك نحوين من
الملاحظة ، بحسب الاصطلاح العلمي ـ طريقة الملاحظة المنظة التي يعتمد الباحث فيها النظر ويتقصى الحقائق حول حادثة معينة أو عدة حوادث حين وقوعها . ثانيهما : الملاحظة المشوشة غير القائمة على التنظيم والتعمد ، كالتاجر يذهب إلى بلد معين ليستورد منها البضاعة ، أو السائح يذهب إليه ليشاهده ، وحين يعود ، يسأل عن ذلك البلد ، وعن حقائقه ووقائعه ، في حين أنه قد شاهدها صدفة وأحسب بها إحساس عشوائياً ، ولم يتعمد فهمها ، ولا التفكير فيها على وجه الخصوص . والتاريخ مدون عادة بالنحو الثاني من الملاحظة . لأن الأشخاص الذين كانوا يعيشون تلك الأزمنة ، إنما عاشوها بصفتها حياة عادية ، لا يعيدون فيها النظر ولا يتعمقون في أسبابها ونتائجها . ثم يأتي الراوي منهم إلى المؤرخ ليعطي له ما علق في ذهنه من هذا الخضم الزاخر الذي عاشه في حياته ، مما قد مر أمامه مروراً عابراً .
لا أريد أن أدخل في البحث عن هذه المشكلات ، فإننا ينبغي أن نكون فارغين عن أجوبتها قبل الدخول في البحث التاريخي ، وإلا فالاولى لمن يؤمن بحرفية هذه المشكلات وصدقها ، ألا يحاول قراءة أي حرف من التاريخ .
طرق تذليل المشاكل التاريخية : يقتضي الحقيق التاريخي تذليل هذه المشكلات بأحد الأساليب الآتية : الأسلوب الأول : الحصول على التواتر في النقل التاريخي ، فإذا اتفق كلام عدد كبير من الناقلين على وصف حادثة معينة ، كان ذلك كافياً لاثباته تاريخياً ، بل القطع به في كثير من الأحيان . ولو اتفقوا على بعض خصائص الحادثة ، كان ذلك ثابتاً بالتواتر ، دون ما زاد عليه . ولو اختلفوا في كل الخصائص مع اتفاقهم على أصل الحادثة ، كان اصل حدوثها متواتراً فقط . الأسلوب الثاني : إننا إذا لم نستطع أن نحصل على التواتر المنتج للعلم ، فبالإمكان الحصول على الإطمئنان والظن الراجح بحصول الحادثة ناشئاً من جماعة يطمأن بعدم اتفاقهم على الكذب ، وهو معنى الاستفاضة في النقل ؛ فيما إذا اتفق أكثر المؤرخين أو جملة منهم على شيء معين ، مع سكون الباقين عن التعرض إليه أو نفيه .
|
|