قالوا: فمن وارثه؟.... فيشير الناس إلي أخيه جعفر بن علي . فيسأل الوفد عنه ، فيقال لهم :إنه قد خرج متنزهاً وركب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنون .فيتشاور الوفد فيما بينهم ويقولون : هذه ليست من صفة الإمام ..وقال بعضهم : أمضوا بنا حتى نرد هذه الأموال  على اصحابها ، ثم يقررون مقابلته واختباره.

فانتظروا رجوعه من نزهته ، ودخلوا عليه و حيوه و عزوه  وهنوه.

وقالوا له : يا سيدي نحن قوم من أهل قم ، ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها .وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد بن علي الأموال .فقال: أين هي؟ ...قالوا :احملوها إليّ !... وإلى هنا يرى جعفر إحدى أمنياته في استيلائه  على الإمامة قد تحقق ، وقد كسب الربح الأول في اليوم الأول .

ولكن يقف دون ذلك حجر عثرة وعائق صعب ، لم يستطع اقتحامه .وذلك أنهم قالوا له: إلا أن هذه الأموال خبراً طريفاً ، فقال: وما هو؟ قالوا : عن هذه الأموال لجمع – أي لعدد من الناس –  ويكون فيها عامة الاشيعة الدينار والديناران ، ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه ،وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد عليه السلام يقول. جملة المال كذا وكذا ديناراً ، من عند فلان كذا وكذا ومن عند فلان كذا وكذا ،حتى يأتي  على أسماء الناس كلهم .ويقول ما على الخواتيم من نقش.


صفحة (317)
 

أنظر إلى إسلوبهم الذي استطاعوا به (اصطياد) جعفر وإفحامه ..إنهم ولا شك ، لم يكونوا بحاجة لأن يسمعوا كل هذه التفاصيل من الإمام العسكري (ع) في كل مرة يغدون عليه ،وإنما كان هذا هو الأسلوب الاساسي الذي يعرفون به إمامة الإمام الجديد إذا تولى هذا المنصب العظيم بعد أبيه ،لأجل أن يتأكدوا أن الأموال قد دفعت إلى وليها الحقيقي والإمام الصادق الذي استطاع إقامة الحجة .

فكان الوفد ، يطلب إقامة الحجة من الإمام الجديد عن هذا الطريق ...وعلى هذا الأساس طلبوا من جعفر ذكر التفاصيل ،فإن أجاب علموا أنه هو ألإمام ، ودفعوا إليه عن طيب خاطر ورضاء ضمير. وإن لم يجب ..فهو ليس بإمام ،وليس له الصلاحية لقبض هذه الأموال في الشريعة الإسلامية .

ولكن جعفر يحاول أن يجد في كلامهم نقطة للمناقشة ليحاول النفوذ منها ..فيقول لهم : كذبتم ، تقولون على أخي ما لا يفعله . هذا علم الغيب ... متغافلاً عن قوله تعالى :" لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول". وأنه يمكن لكل شخص أن يعلم ما يعلمه الله تعالى إياه، فليس مستبعداً أن يكون الإمام ،وهو الوجود  الثاني للقيادة الإسلامية بعد الرسول (ص) والإمتداد الطبيعي لرسالته العالمية ...أن يكون ملهماً من قبل الله عز وجل بعض الحقائق ليستعملها في شؤون قيادته وإقامة لحجة على إمامته ، عند اقتضاء المصلحة لذلك.


صفحة (318)
 

فلما سمع القوم كلام جعفر ، جعل بعضهم ينظر إلى بعض ..أن هذا ليس هو الإمام ، وليس في الإمكان دفع المال إليه ..وقد فشل في نتيجة الإختبار. فقال لهم جعفر: احملوا هذا المال إليّ. قالوا: أنا قوم مستأجرون، وكلاء أرباب المال .لا نسلم المال إلا بالعلامات التي نعرفها من سيدنا أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام . فإن كنت الإمام فبرهن لنا. وإلا رددنا الأموال على أصحابها يرون فيها رأيهم.

إنه تحد صارخ لجعفر ..وهو تحد لا يستطيع إلا الإمام الحق ان يخرج من مأزقه ،أما صاحب المخطط التخريبي فلم يعلمه الله تعالى شيئاً ليقوله لأحد .وأحسّ جعفر بالإنهيار والضغف مرة أخرى ، بعد تنحيته عن الصلاة علي أخيه ....إن للإمامة مسؤوليات .لا يستطيع ظهره أن ينوء بها ...ولكنه لا يستطيع أن يتنازل أو يتخاذل ...لا بد أن يقف صامداً على مخططه إلى آخر الخط ، فإنه إذا فشل في المحاولة الأولى بالحصول على المال ، فلا بد أن يفشل في المحاولات التالية ... أمام الوفود الأخرى ،أن أقرب طريق وأقوى ضمان للإستيلاء على هذه الأموال هو التوسط لدى السلطات ، لأجل إلزام هؤلاء القوم بدفعها.

ومن هنا يبادر جعفر بالذهاب إلى المعتمد ،وهو يمثل أعلى سلطة في البلاد – من الناحية القانونية – على الأقل ، لكي  يتملق له ويشكو عنده هذا الوفد ليساعده في ابتزاز ما عندهم من المال.

وإذ يسمع المعتمد الشكوى يأمر بإحضار الوفد ، فيحضرون وتدور بينه وبينهم ، المحاورة التالية :

قال الخليفة : احملوا هذا المال إلى جعفر .


صفحة (319)