ونحن في حدود التاريخ الذي استعرضناه ، قد نجد في عبارة المسعودي شيئاً من المبالغة ، بعد ان وجدنا الامام العسكري ، يذهب إلى دار السلطان (البلاط) كل اثنين وخميس ويزور الوزير عبيد الله بن خاقان ويزور أصحابه في السجن .. ونحو ذلك. إلا اننا إلى جانب ذلك ، حملنا من تاريخه عليه السلام فكرة واضحة ، عن سيره على هذا المخطط وإتصاله بأصحابه عن طريق الكتب والمراسلات. حتى اعتاد أصحابه على ذلك وأصبح المفروض عند مواليه ان الأتصال به والسؤال منه لا يكون إلا عن طريق المراسلة. وقد مرت بنا كثير من الشواهد على ذلك.

فهذا تختلج في صدره مسألتان يريد الكتاب – الكتابة – بهما اليه عليه السلام(1) وأبو هاشم الجعفري يكتب اليه شاكياً ضيق الحبس وكلب الحديد(2) . والامام يكتب إلى أصحابه مبشراً لهم ومحذراً بموت المعتز(3) أكثر من مرة وبموت المهتدي(4) أيضاً ومخبراً لهم عن موت الزبيري (5) ويكتب لهم عن رأيه في صاحب الزنج وعن وصفه لقضاء المهدي القائم في دولته ويعطي لمحمد بن إبراهيم خمسمأة درهم ولابيه ثلثمأة من وراء الباب بواسطة غلامه(6) . وقد سبق ان سمعنا كل ذلك وشواهده أكثر من أن تحصى .

ــــــــــــــــــــ

(1) الارشاد ص 323 .   (2) المصدر ص 322 .

(3) انظر مثلا – كشف الغمة ج 3 ص 207 .

(4) المصدر ج 3 ص 204 .   (5) كشف الغمة ج 3 ص 207 .

(6)  المناقب ج 3 ص 537  .


صفحة (223)

 

ولاجل ذلك يدخل عليه أحمد بن اسحاق ، وهو من خاصته ، فيطلب اليه ان يكتب لينظر إلى خطه فيعرفة عند وروده ليكون آمناً من التدنيس والتزوير. فيكتب له الامام (ع) في ورقة. ثم يلفت نظره إلى احتمال تغير القلم في كتاباته عليه السلام، قائلاً: يا أحمد أن الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق.فلا تشكن (1) .

وكان غاية أمل جمهور مواليه في رؤيته عليه السلام .. هو الجلوس في الطريق ، في وقت مروره ذاهباً إلى البلاط وراجعاً منه . فمن ذلك مما سمعناه من مجيء الوفد من الأهواز ومقابلته في الطريق حين رجوغ موكب المعتمد من توديع الموفق حين خروجه لحرب الزنج .

وسمعنا عن ذلك الشخص الذي اثرت فيه شبهة الثنويه، فلقيه الامام في طريق رجوعه من زيارة البلاط وأشار اليه بسبابته : أحد أحد .

ويجلس شخص من الموالين للامام عليه السلام ، في أحد الشوارع فيرى الامام ماراً حين خروجه من منزله قاصداً مجلس الخليفة . فيفكر في نفسه أنه لو صاح الآن بأعلى صوته معلناً بالحق الذي يعتقدة مصرحاً بإمامة هذا الامام على البشر اجمعين ، فماذا سوف يحدث ؟!

ــــــــــــــــ

(1)  المناقب ج 3 ص 533 .


صفحة (224)

 

قال الراوي: فقلت في نفسي : ترى ان صحت : ايها الناس هذا حجة الله عليكم ، فعرفوه . يقتلوني؟ .. فلما دنا مني أوما بإصبعه السبابة على فيه أن اسكت . ثم يراه هذا الرجل فيما يرى النائم محذراً له من القتل وموجباً عليه الكتمان قائلاً : انما هو الكتمان أو القتل ، فاتق الله على نفسك (1) .

ومما يندرج في هذا الصدد إفهامه عليه السلام لأحد أصحابه وهو راكب في الطريق .. بالاشارة انه يرزق ولداً ولكنه ليس بذكر .. فولدت زوجته ابنة(2) . وذلك العباسي الذي يجلس للإمام على قارعة الطريق ويشكو له الحاجة ويحلف له: انه ليس عنده درهم فما فوقه ولا غداء ولا عشاء. قال : فقال : تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مأتي دينار . وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيه . با غلام اعطة ما معك فأعطاني مآئة دينار(3) .

إذن فالامام عليه السلام كان سائراً على طبق مخطط الاحتجاب ، تعويداً لأصحابه وقواعده الشعبية على فكرة الغيبة واسلوبها ، ورفعاً لإستغرابهم الذي كان سيحدث لو لم يكن هذا المخطط .

ولعلنا تستطيع – بهذا الصدد – ان نحمل فكرة واضحة من ان فكرة عيبة الامام المهدي عليه السلام هي بذاتها بكرة احتجاب ابيه ، وان اسلوبهما في قيادتهما واحد من الناحية الكيفية لا يختلف .

ـــــــــــــــــــــــــ

(1)  اتظر الخرايج والجرايح ص 59 .

(2)  انظر كشف الغمة ج 3 ص 216 .

(3) الارشاد ص 323 والاعلام ص 352 وكشف الغمة ج 3 ص 203 .


صفحة (225)