يقول : فلم ألبث أن أتوني بشمعة ،  فنزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة . فقال لي : دونك  البيوت – يعني الغرف - فدخلتها وفتشتها ، فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أمام المتوكل وكيساً مختوماً معه، فقال لي أبو الحسن عليه السلام : دونك المصلى فارفعه ، فوجدت سيفاً في جفن ملبوس . فأخذت ذلك ...إلى آخر الرواية كما سمعناها.

ويضطر هذا المتجسس ، في نهاية الشوط إلى الإعتذار من الإمام (ع) بكونه مأموراً . فيتلو الإمام قوله تعالى: " وسيعلم  الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" (1)

وفي حادثة أخرى : يصل  إلى المتوكل خبر مال يصل من قم ، وهي إحدى مراكز الولاء للإمام علي (ع) ..إليه عليه السلام ، فيأمر وزيره الفتح بن خاقان أن يراقب الوضع ويأتي بالخبر ، فيرسل الوزير بعض مأموريه يدعى أبو موسى إلى الإمام ، فيجلس في مجلسه ساكتاً ، فيطالبه الإمام بتبليغ رسالة المتوكل قائلاً: لا يكون إلا خيراً .. يا أبا موسى ، لم  لم تعد الرسالة الأولة ، فيجيب أبو موسى : أجللتك يا سيدي ، فيدله الإمام بكل وضوح على طريق الإطلاع على هذا الماال وييسر له السبيل إلى ذلك بقوله : المال يجيء  الليل وليس يصلون إليه . فبت عندي.

ــــــــــــــــــــ

(1) انظر الإرشاد ص311 وانظر الفصول المهمة لأبن الصباغ ص298 وما بعدها بتغيير قليل

 

صفحة (151)

 

إنما يجيء المال ليلاً تخفياً عن عيون الدولة ، ولكن ما الحيلة بعد اطلاع الدولة عليه ، وتحديد سياسة الدولة  بالسلبية وعلى أي حال ، يبات أبو موسى عنده ، وحين يجيء الليل يشتغل الإمام بالصلاة ، مدة من  الزمن ..وبينما هو في الركوع في إحدى صلواته ، إذ يقطعه بالسلام قبل إتمام ركعات الصلاة ،ويقول لأبي موسى : قد جاء الرجل ومعه مال وقد  منعه الخادم الوصول إليّ ، فاخرج فخذ ما معه (1).
النقطة الرابعة :

إلقاء القبض على الإمام علي عليه السلام حين ضاق المتوكل ذرعاً بحقده على الإمام وبنشاط الإمام الذي لم يكن بمستطاعه التعرف عليه بسعة ووضوح ، وقد بذل كل ما بوسعه ولا زال إلى الجانب المهم من ذلك النشاط غامضاً عنه يظن به الظنون ولا يمكنه أن يحيط بمحتواه . وقد حمل المتوكل توجسه وحقده على أن يزج الإمام في السجن ، وذلك في الأيام الأخيرة من خلافته.

ولا يخفى ما في ذلك من التحدي للقواعد الشعبية والجماهير الواسعة المؤمنة بالإمام قائداً ورائداً وموجهاً وإماماً . فإن سجن القائد بمنزلة سجن كل قواعده الشعبية ،ويكون تحدياً لها وللمبدأ الذي يتخذه والهدف الذي يهدفه ،وهذا ما لم يكن للمتوكل منه مانع ، وهو الذي خرب قبر الحسين عليه السلام ومنع الزوار عنه ، على ما سمعنا.

ــــــــــــــــــــ

(1)  المناقب ص515 وما بعدها.


صفحة (152)

 

وقد  وردت في سجن الإمام روايتان تتفقان على وقوع ذلك في وقت واحد قبل ثلاثة أيام من موت المتوكل ، ولكنها تختلف في جملة من  التفاصيل .

الرواية الأولى : أنه حين قبض المتوكل على الإمام (ع) سلمه إلى علي بن كركر ليزج به  في السجن ويراقبه فيه، فصادف ان سمعه بغا او وصيف -  الشك من الراوي- ،وهما القائدان التركيان المتنفذان في الدولة يومئذ، على ما عرفنا في التاريخ العام ، سمع الإمام وهو في السجن يزمزم قائلاً : أنا أكرم على الله من ناقة صالح " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب" لا يفصح بالآية ولا بالكلام .ولم يفهم هذا القائد التركي مراد الإمام .فسأل عنه ، وكان المسؤول هو راوي هذه الرواية . قال الراوي : قلت :أعزك الله ،، توعد . انظر ما يكون بعد ثلاثة أيام .فلما كان من الغد أطلقه واعتذر إليه .

فلما كان في اليوم الثالث : ثار عليه الأتراك ،ومنهم باغر ويغلون واوتامش ، وقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر مكانه (1).

ويطيب لي ان أعلق على هذه الرواية بأمرين :

أحدهما: أن وعيد الإمام كان رمزياً إلى حد كبير ، إلى  حد لم يفهمه القائد التركي .. وكان من الأهمية في الدولة ، بحيث أن الراوي حين فسره خاف أن يصرح بما فهمه بوضوح وإنما اختصر كلامه اختصاراً خشية أن يناله ضرر، ولا زال المتوكل في الحياة والحكم .

ــــــــــــــــــــ

(1)  انظر احلام الورى ص346


صفحة (153)