ويحافظ الإمام (ع) على البدرة – وهي حزمة المال – غير مفضوضة الخاتم ولا مستعملة ..أياماً ، حتى حصلت كبسة سعيد الحاجب على داره بأمر المتوكل ، على ما سنذكر في النقطة التالية ، فيجد عنده البدرة المختومة ، فينقلها مع كيس آخر مختوم وسيف إلى المتوكل ، فلما نظر المتوكل إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها وسألها فذكرت له نذرها عند مرضه ، وقالت هذا خاتمي على الكيس ما حركه ... وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار ...فأمر لأن يضم إلى البدرة بدرة أخرى وقال لسعيد الحاجب: احمل ذلك إلى أبي الحسن .. واردد عليه السيف والكيس بما فيه. قال سعيد : فحملت ذلك إليه واستحييت منه ، فقلت له : يا سيدي عزّ علي دخولي دارك بغير إذنك . ولكني مأمور ! فقال ليّ  وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (1).

انظر إلى الإحترام والتقديس الذي يتمتع به ألإمام (ع) في البلاط ، وإلى المكاسب التي حصل عليها فيه ، ولا ينبغي أن تفوتنتا المبررات السابقة لسياسة الملاينة التي ينتهجها الإمام ، بالرغم من انه يتلو حين يدق ناقوس الخطر قوله تعالى : "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".

النقطة الثالثة : اضطهاد  المتوكل لللإمام الهادي عليه السلام حيث أمر بكبس منزل الإمام (ع) عدة مرات .

ــــــــــــــــــــ

(1)  الإرشاد ص310 ، والمناقب ص517


صفحة (148)

 

فإن السعايات والوشايات التي كانت ترتفع إلى المتوكل ضد الإمام بين آونة وأخرى .. كانت توقظ شكوكه وتثير شكوكه توجسه الكامن في نفسه، تجاه الإمام . ولعلنا نستطيع القول : بان شخصاً من  الضالعين بركاب الحكم، يطلع صدفة على بعض آثار نشاط الإمام (ع) في سبيل مصالح مواليه، فيبالغ هذا الشخص فيه ، تملقاً للدولة، ويجعله خطراً يهدد كيانها القائم ، مع أننا عرفنا أن مثل هذا النشاط – بشكله المبالغ فيه - لم يكن موجوداً لدى الإمام علي عليه السلام. وعلى أي حال يثير هذا الساعي كوامن الخوف والتوجس في نفس المتوكل ، فيغريه ذلك بكبس دار الإمام للتأكد من صدق  الوشاية أو كذبها .

والملاحظ في هذه العمليات أمران :

أحدهما: أن الوشاية دائماً كانت تبوء بالفشل ويرجع جواسيس الخليفة مؤكدين أنهم  لم يجدوا في دار الإمام ما يثير التوجس . مما يوجب عود المتوكل إلى هدوئه واستمراره على إظهار احترام الإمام وتقديره.

وقد سبق أن أرجعنا ذلك ، إلى أن الإمام أفلح ،  لطريق غيبي أو طبيعي ، في إخفاء مكامن الشك عن الدولة بالرغم مما كان يرده من الأموال والكتب ما كان يقوم به من إتصالات، وقد أطلعنا على صور موجزة للأساليب الرمزية التي كان يستعملها الإمام حين يريد التعبير عن أمر محظور في نظر الدولة.

 

صفحة (149)

 

ثانيهما : أن ألإمام وإن كان يظهر - عند  الكبس على داره – سخطه بتلاوة أية من  القرآن كالذي سمعناه من قوله تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي  منقلب ... الآية .إلا أنه كان يعين الشرطي المتجسس على مهمته.. فيسرج له الضياء ويدله على غرف الدار ... توخياً في الإيضاح العملي للدولة بانه لا يملك أي تشاط غريب، على انه لو أظهر أي مناوءة لمثل هذه المحاولة لكان مثيراً جديداً للشك .. هو في غنى عنه ، ومنافياً لسياسة الإمام السلبية تجاه الدولة.

وقد حدثت عدة حوادث كبس على داره عليه السلام ، فمن ذلك ما سبق أن نقلناه عن ابن خلكان وجمهور من المؤرخين الخاصة والعامة ، من كبس داره في نصف الليل وحمله إلى المتوكل وهو على مجلس الشراب ، واستنشاده الشعر ، فأنشد الأبيات التي اولها :

           باتوا على قلل الأجيال تحرسهم     غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
 

ومن ذلك كبسة لدار الإمام نتيجة لسعاية البطحاني به إلى المتوكل وزعمه : أن عنده أموالاً وسلاحاً . فأمر المتوكل سعيد الحاجب أن يهجم  عليه ليلاً ويأخذ ما عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه ، فأخذ سعيد معه سلماً وذهب إلى دار الإمام وصعد عليها من الشارع إلى السطح ونزل خلال الظلام فلم يدر كيف يصل إلى الدار. قال سعيد :

فناداني أبو الحسن عليه السلام من الدار : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة . أقول: انظر إلى مساعدته عليه السلام لهذا المتجسس .. وإلى علمه بشخصه قبل رؤيته .. وإنما ناداه بذلك لإثبات الحجة عليه ، أثناء تلبسه بالجرم...


صفحة (150)