إلا أن هذه النقطة غير مضرة ، تمشياً مع ميزان الإثبات التاريخي الذي سرنا عليه ...لو كانت الروايات متفقة في المضمون . أو كان بعضها موثوقاً سنداً ... ولم نكن نتوخى في الإثبات حصول الإستفاضة في الأخبار .

وقد يخطر في الذهن : أن أخبار (النفس الزكية) الموعودة ، كثيرة العدد ، ومستفيضة ،كما هو معلوم لمن استعرضها ..وليست قليلة كما قلناه.

والحق ،أننا إذا نظرنا إلى مجموع أخبار (النفس الزكية) بما فيها من الأخبار الدالة على أن مقتل النفس الزكية من المحتوم وأنه من علامات القائم ، كانت الأخبار مستفيضة حتماً .

إلا أن هذا المجموع ، لا يثبت إلا مقتل النفس الزكية إجمالاً ، وهذا لا يفيدنا في صدد كلامنا الحاضر ، لإحتمال انطباقها على محمد بن عبد الله الحسني الملقب بالنفس الزكية .وأما الأخبار التي تتحدث عن التفاصيل، والتي توضح أن هناك شخصاً آخر بهذا اللقب سوف يقتل في المستقبل ، وهي ما سمعناه في أول الفصل، فليس مستفيضاً ،وإن لم يكن عدم الإستفاضة مضراً ، كما أشرنا .

النقطة الثانية :إن في هذه الأخبار عدداً من جوانب الضعف :

الجانب الأول : ما كان رواية عن غير المعصوم ، كالخبر الذي نقله الشيخ عن سفيان أبن ابراهيم الحريري عن أبيه ... وكلام الصافي في منتخب الأخبار .

الجانب الثاني : ما كان مرسلاً ، بدون ذكر أي راوٍ على الإطلاق ، كخبر الإرشاد ، وخبر الخرايج والجرايح.

الجانب الثالث : ما كان مرفوعاً مع وجود جزء من السند ، أعني بعض الرواة وجهالة الباقي .وهو رواية البحار المتضمنة لخطبة النفس الزكية ... حيث رواها المجلسي عن السيد علي بن عبد الحميد بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي يرفعه إلى أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام .

الجانب الرابع : ما كان قاصراً في دلالته أساساً على ما فهمناه .مثل خبر الإرشاد الذي يذكر من العلامات : ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام .فإنه لا يتعين أن يكون هو النفس الزكية .المسمى بمحمد بن الحسن في الأخبار الأخرى ،وإن كان المظنون هو ذلك ، لإستبعاد أن يقتل قبل الظهور بين الركن والمقام شخصان ...مع قدسية بيت الله الحرام لدى المسلمين ووضوح حرمته .

 

صفحة (184)
 

وكذلك الخبر الثاني للبحار . فإنه يصرح باسم النفس الزكية ، وإنما قال : فيبتدر الحسني إلى الخروج ، وهو أيضاً غير متعين الإنطباق عليه .

الجانب الخامس: وجود التعارض في دلالات بعض هذه الأخبار.

فلو حاولنا أن نعرف أن النفس الزكية هل هو مرسل من قبل المهدي (ع) أو لا ؟

نجد أن الخبر المطول الذي نقلناه عن البحار .يصرح بالإيجاب .ونجد الخبر الثاني ينفيه بقوله : فيبتدر الحسني للخروج .وهو واضح في عدم استئذانه من المهدي (ع) فضلاً عن تحمل الرسالة عنه – مع افتراض أنه هو النفس الزكية والغض عما سبق – .

النقطة الثالثة : وفي هذه الأخبار بعض جوانب القوة ، وإن لم تكن تعدل جميع جوانب الضغف السابقة .

الجانب الأول : إن الخبر القائل: ليس بين القائم وبين قتل النفس الزكية إلا خمس عشرة ليلة ، خبر موثوق قابل للإثبات التاريخي ، بحسب منهج هذا الكتاب .

فقد رواه الشيخ المفيد في الإرشاد(1) عن ثعلبة بن ميمون عن شعيب الحداد عن صالح بن ميثم (الجمال) ، قال: سمعت أبا جعغر عليه السلام :

وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاء .وكان بودي أن أشير إلى تصريحات العلماء لولا أنه يطول به المقام ، فنوكله إلى القارىء الباحث .

ورواه الشيخ الطيوسي في الغيبة(2) عن الفضل بن شاذان عن الحسن بن علي بن فضال عن ثعلبة إلى آخر السند .وكلاهما من العلماء الثقات.

وعليه ، فما ذكرناه في التاريخ السابق(3) من المناقشة في سند هذا الحديث مبني على التشدد السندي الذي التزمناه هناك ... وقد رفعنا اليد عن الإلتزام به هنا .

الجانب الثاني : أن الخبر الثاني الذي نقله عن البحار موثوق أيضاً .فقد نقله (4) عن الكافي لثقة الإسلام الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن يعقوب السراج عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام ،وكلهم ثقات أجلاء .


صفحة (185)

ـــــــــــــــــ  

(1) ص339.      (2)ص271.

(3) ص613.       (4) ص178.

 

الجانب الثالث : أننا يمكن أن نستفيد من مجموع هذه الأخبار، ومن كلمات من سمعنا تصريحاتهم كالراوندي والصافي وابراهيم الحريري ، الذين اعتبروا الأمر في عداد المسلمات . فنستفيد وجود التسالم أو الشهرة الواسعة على ان مقتل النفس الزكية يكون قبل الظهور بقليل بين الركن والمقام .وأنه غير مقتل الثائر الحسني الملقب بهذا اللقب .

غير أن هذا الجانب لا يخلو من المناقشة :

أولاً : لأنه لم يثبت وجود شهرة وتسالم أوسع من الأخبار الموجودة لتكون قرينة عليها .وكلمات الراواندي والصافي وغيرهما قد تكون اعتماداً على هذه الأخبار فقط.

ثانياً إن الشهرة – لو ثبتت- تدفع احتمال انطباق مقتل النفس الزكية على الثائر الحسني السابق .إلا أنها لا تثبت كل الخصائص المطلوبة ، ككونه رسول المهدي (ع) إلى الناس وخطبته فيهم ، ويكون سبب مقتله بين الركن والمقام مجهولاً .

غير ان الأخذ بهذا الجانب الثالث قريب من النفس ، وإن لم يصل إلى درجات الإثبات التاريخي .

فهذه هي النخبة من الحوادث الإجتماعية المروية ، لما قبل الظهور ، وهناك أمور متفرقة مروية أيضاً أعرضنا عنها ، لقصورها عن الإثبات التاريخي فيكون الدخول في تفاصيليها تطويلاً بلا طائل .

كما أن هناك تفاصيل في تحديد الوضع العالمي قبل الظهور ، مما يمت إلى إيجاد الظرف المناسب للنصر بعد الظهور بصلة .وهي تفاصيل مهمة ، سنعرض إلى محتملاتها والإستدلال عليها في القسم الثاني الآتي عند عرض ضمانات النصر للمهدي عليه السلام .

 

صفحة (186)