ومنها : ما أخرجه أبو داود (1) عن زر عن عبد الله عن النبي (ص) قال:

لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني – أو من أهل بيتي - يواطىء اسمه اسمي ... الحديث .

وأخرج أيضاً (2) عن علي (ع) عن النبي (ص) : قال:

 لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي ... الحديث .

وهذه التأكيدات في الأخبار كثيرة ومتضافرة ، وكلها دالة على ضرورة تمخض التخطيط الإلهي السابق عن وجود اليوم الموعود . وعدم فناء البشرية قبله.

وأما بالنسبة إلى التخطيط الموجود بعد الظهور . حيث يكون الوعد قد تحقق والغرض الأساسي من خلق البشرية قد انجز ، فقد يبدو أنه لا حاجة لبقاء البشرية بعد ذلك ،ولا دليل عليه .

وستأتي مناقشة ذلك مفصلة في القسم الثالث من هذا التاريخ ، غير أن الصحيح هو طول عمر البشرية ، لأجل دليلين رئيسين :

الدليل الأول : أننا فهمنا في التاريخ السابق(3) من قوله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "(4)، فهمنا : أن الغرض الأساسي من خلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها .وفهمنا هناك (5) من العبادة الكاملة وجود المجتمع الصالح والدولة العالمية الصالحة .

فلو أننا اقتصرنا على هذا المقدار من الفهم ، لكان الغرض من خلق البشرية متحققاً بمجرد تأسيس المهدي (ع) لدولته العالمية العادلة .ومعه فقد يخطر في الذهن :أن المقصود هو إيجاد هذا النوع العالي من العبادة ولو في فترة قصيرة من الزمن . فلا بقى أي دليل على استمرار البشرية بعد ذلك ردحاً طويلاً من الزمن ، إن لم يكن ذلك مستحيلاً ، لأن بقاء الشيء بعد استيفاء لأغراضه محال في الحكمة المطلقة .

 

صفحة (95)   
ــــــــــــــــــ
(1)
ج2 ص42.
(2) المصدر والصفحة .

(3) تاريخ الغيبة الكبرى ص235. (4) الذاريات : 51/56.

(5) ص224.

 

لكننا نريد في هذا الدليل أن نخطو خطوة جديدة في فهم هذه الآية .وهي :إن المعنى الذي ذكرناه للعبادة وإن كان مهماً ورئيسيأ جداً ...إلا أنه ليس نهائياً بحال . بل هناك مراتب أعلى من العبادة تكون تلك المرتبة الأولى مقدمة لها وإعداداً لإيجادها ، وكلها ممكنة الحصول من البشرية واتصفاها بها في المدى الطويل ، كما سيتضح عند استعراضها .

وبطبيعة الحال، كما تصورنا مرتبة من العبادة ممكنة للبشرية ، كانت مندرجة في مدلول الآية الكريمة ، لعدم وضع الآية أي تحديد على مفهوم العبادة فيكون إيرادها مطلقة ، دليلاً على إيراد العبادة المطلقة .

إذاً ،  فالغرض الأساسي من خلق البشرية أبعد بكثير من مجرد وجود الدولة العالمية ، وإنما وجدت هذه الدولة العظيمة .وخططلها في تاريخ البشرية الطويل من أجل هدف أعلى وأمامها . ويكفينا الآن أن نعبر عنه بـ(العبادة المطلقة) لخالق الكون ، حتى يأتي في مستقبل البحث ما يلقي الأضواء الكافية على هذا المفهوم .

إذاً، فوجود الدولة العالمية ، لا يعني نجاز الغرض الأقصى من خلق البشرية وتحققه في عالم الوجود ، بل هو لم يوجد بتأسيس هذه الدولة ،  ولازال أمام البشرية الكثير لكي تصل إليه .

إذاً ، فلا معنى لقصر عمر البشرية بعد تأسيس هذه الدولة ، بل لا بد أن تبقى حتى تستوفي لغرضها الأعمق ، إذ يستحيل تخلف الأغراض في الحكمة الإلهية الأزلية .

الدليل الثاني : أنه يستبعد ان يكون زمان النتيجة اقصر بكثير من زمان المقدمات .

فإننا عرفنا كم من الزمان يستغرق إعداد البشرية لليوم الموعود ...وهو كل عمرها منذ أول وجودها إلى حين نجاز ذلك اليوم العظيم .وهو ما لا يقل عن عدة الآف من السنين ، إن لم يكن أكثرمن ذلك ، كما عليه أنصار الفكر الحديث .وقد استوعبت هذه المدة ملايين الحوادث من تضحيات البشرية وآلامها ومظالمها . ومن جهود الأنبياء والأولياء والمصلحين والشهداء ، ومن ظروف التمحيص الإلهي ، وما أدته البشرية من خيرات وما ارتكبته من جرائم ، فإن كل ذلك  ، كان مقدمة لليوم الموعود ، وإعداداً لحصول شرائطه المطلوبة التي لا يمكن تحققه بدونه ، كما عرفنا من التخطيط الإلهي السابق على الظهور .

وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق مفصلاً .


صفحة (96)
   
ــــــــــــــــــ

(1) انظر الفصل الخاص بالتخطيط الإهي ص233.

 

فهل من المعقول أن تستمر المقدمات آلافاً من السنين ، ثم لا تكون النتيجة غير تسع سنوات أو أقل، كما تدعي الفكرة التقليدية .إن هذا في غاية البعد بحكم العقل .فإنه يعني بكل وضوح استخدام الأجيال البشرية المتطاولة في سبيل إسعاد جيل أونصف جيل !! إن هذا قبيح عقلاً ومستحيل في الحكمة المطلقة الأزلية .

وتبقى هذه الإستحالة سارية المفعول ما لم تصل النتائج أعني أجيال ما بعد الظهور . إلى حد من الكثرة بحيث تكون التضحية بالأجيال السابقة في سبيلها من قبيل التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة ، أو بالمصلحة القليلة في سبيل المصلحة الكبيرة فليكن القارىء متذكراً لذلك .حتى يأتي موضع الحاجة منه وإيضاحه .

 وإذا تم البرهان على طول عمر البشرية بعد الظهور ، وعدم وصولها إلى هدفها الأسمى بمجرد حصوله: إذاً، فمن اللازم التخطيط لهذا الهدف خلال هذا العمر إذ لا يوجد شيء مهمل في هذا الكون .ولا بد من إعداد البشرية بالشكل الذي يمكنها الوصول إلى ذلك الهدف ، كما كانت قد أعدت للتشرف بلقاء اليوم الموعود .

ومعه يكون قد تبرهن هذا التخطيط وثبت ثبوتاً كاملاً . ولا بد لنا فيما يلي أن نعطي المؤدى العام لهذا التخطيط. فنتعرف على صياغته وخطواته ، كما تعرفنا على صياغة وخطوات التخطيط السابق عليه .

ما بين التخطيطن :

إذا كان المقصود من التخطيط الإلهي السابق ، هو التوصل إلى ظهور المهدي (ع) وحسب ، إذا ً، يكون هذا التخطيط منتهياً  في لحظة الظهور.

إلا أن التخطيط الجديد سوف لن يبدأ بلحظة الظهور بطبيعة الحال، لأن تخطيط للعالم الذ يتم فيه تطبيق العدل للسير باتجاه (العبادة المطلقة) . وهذا التطبيق لا يتم في اللحظة الأولى ...بل يحتاج إلى جهود عميقة وواسعة من قبل القائد المهدي (ع) وأصحابه المخلصين . في غزو العالم عسكرياً وثقافياً والسيطرة عليه تماماً .فإذا تمت وأثمرت هذه الجهود . يكون التخطيط قد بدأ .

ومن ثم نواجه في فهم الموقف ثلاث اطروحات محتملة :

الأطروحة الأولى :أن هناك ما بين التخطيطين ، فترة من الزمن محدودة ، ذات  تخطيط خاص بها ، يستهدف سيطرة القائد المهدي (ع) على العالم واستتباب الدولة العالمية العادلة ...


صفحة (97)