وستشق هذه الدعوة طريقها ، ويتحقق مدلول هذه الآية الكريمة ، في أول فرصة تتوفر فيها هذه الشروط .  وليس ذلك غلا عند ظهور الامام المهدي (ع) .

ولولا التخطيط الالهي لايجاد الشروط ، باعتبار استهدافه لليوم الموعود ، لأمكن عدم تحقق شيء من هذه الشروط في أي وقت من عمر البشرية الطويل . 

ولكن الله تعالى ، وهو اللطيف الخبير بعباده ، شاء ان يتفضل على البشرية باليوم الموعود ، وأن يربيها لأجل أن يزرع فيها بذور المسؤولية وإيجاد الشروط التي بها تستطيع تكفل مسؤوليته .

                                                 *    *    *

الجهةالرابعة :

التخطيط الالهي الخاص بإيجاد القائد وكان للشرط الثاني حصته من التخطيط الالهي لليوم الموعود ، وهو وجود القائد العظيم الذي يتكفل بعلمه وتعاليمه تطبيق العدل المحض الكامل على العالم كله .

ويكون ذلك على مستويين ، الأول : بلحاظ إيجاد قابلية هذه القيادة في شخص القائد .  والثاني : باعتبار تكامل هذه القابلية لديه ، باعتبار أطروحة محتملة سنذكرها ونحاول فهمها من الأدلة الاسلامية .

ومن هنا يقع الكلام في تفاصيل هذين المستويين .

المستوى الأول :

في إيجاد القائد العظيم ، بمعنى إيجاد الشخص القابل للقيادة العالمية أساساً .
ينحصر السبب لايجاد هذه القابلية في اي شخص ، بعد وجود القابلية الذاتية فيه من ناحية نفسية وعقلية لذلك, ...ينحصر إيجادها بالتعليم والتثقيف من قبل شخص مطلع على أساليب هذه القيادة وقواعدها العامة .

فإن لم يكن على وجه الأرض قائد تام المواصفات ، ليتكفل تربية من بعده من الأفراد ليصبحوا قواداً .  واقتضت المصلحة إقامة الحجة على البشر بإيجاد مثل هذا القائد ... سمح (قانون المعجزات) الذي سبق أن ذكرناه، بوجود معجزة الوحي لايجاد النبي القائد .  فيكون المعلم والموجه والمربي الذي يوجد من شخص النبي قائداً عالمياً هو الله تعالى . فيوجد النبي حاملاً إلى البشر أطروحته المبدئية ، وقابلاً للقيادة بمقدار من يدعوهم إلىالايمان به واتباعه من البشر . فإن كانت دعوته عالمية وجب أن تكون قابليته عالمية ، كما سبق أن برهنا عليه ... وهكذا كان نبي الاسلام (ص) .

صفحة (416)

وأما إذا كان مثل هذا القائد موجوداً على وجه الأرض ، واحتاجت الدعوة الالهية إلى قائد جديد . فلا حاجة لاقامة المعجزة في مثل ذلك لتربية عنصر القيادة في القائد الجديد . لامكان حصور التعليم على هذا المستوى الرفيع من قبل القائد الموجود ، بعد اختيار الشخص القابل ذاتاً لتلقي هذا التعليم .

وقد يخطر في الذهن ، التساؤل عن الحاجة إلى التعليم ، في حين نجد الكثير من القادة المعروفين كنابليون مثلاً ، قد قاموا بالقيادة حسب المنهج الذي رسموه ، بدون تعليم مسبق .

والجواب عن ذلك : إن تعليم القائد يمكن أن يكون على أحد مستويات ثلاثة :

المستوى الأول :

تلقيه للثقافة العامة الموجودة لدى الفكر البشري ، في فرع واحد أو عدة فروع .

والتعليم على هذا المستوى موجود بالنسبة إلى كل قائد ، ممن يخطر على ذهن السائل .  يشترك في ذلك القادة على المتسوى الالهي والقادة على المتسوى المادي . 

بل من الممكن أن نقول : أن القيادة لا تتوقف على هذا التعليم أصلاً .  بحيث لو كان القائد جاهلاً بفروع المعرفة أمكن أن ينجح في قيادته ، كما حدث أحياناً في التاريخ ، في بعض القيادات القديمة .  نعم ، لو كان القائد هاوياً على مثل هذه المعرفة كان – بلا شك – أفضل .

المستوى الثاني :

معرفته قيادة الحروب ، وتحريك القطعات العسكرية .  وهو وإن كان ضرورياً للقائد ، إلا أن القواعد العامة لذلك ، مما يتلقاه القادة بالتعليم ، وبدونها يكون فاشلاً لا محالة .  وليس كما ظن السائل من تولي القيادة بدون تعليم .
وأما تطبيق ذلك في الحروب ، فهو تابع إلى ذكاء القائد وعمق خبرته ، وليس مما يتلقاه بالتعليم من كل القادة .

صفحة (417)

المستوى الثالث :

معرفته للايديولوجية العامة التي يستهدف نصرها ويحاول انجاحها وتطبيقها .

وهذا هو الجانب المهم الذي يعطي للقيادة مغزاها وللحروب معناها .  وهو المحك الذي تختلف به القيادة الالهية عن غيرها .  فان القادة الاعتياديين يعرفون ذلك من الاتجاهات العامة التي يستوحونها من المصالح الخاصة أو المجتمع المنحرف أو الكافر .  فتكون فكرة السيطرة أو الوطنية أو القومية أو غيرها عناصر كافية لتغطية هذه الحاجة ، من دون حاجة إلى التلقي بالتعليم .

وأما القيادة القائمة على الأساس الالهي ، فهي تنطلق من عدة زوايا كل واحدة منها تحتاج إلى تعليم أولاً وإلى مران وتمحيص ثانياً وإلى تكامل وتعميق ثالثاً .

الزاوية الأولى :

استيعاب الهدف الذي من أجله وجدت البشرية واستهدفت هدايتهم ، ومن أجلها بعث الأنبياء ووجب الجهاد ، وأقيمت الدولة الاسلامية .

الزاوية الثانية :

استيعاب دقائق القانون الذي يطبق في المجتمع البشري ، سواء على مستوى الدولة ، أو قبلها .

الزاوية الثالثة :

طرق الارتباط بالناس وممارسة هدايتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والقواعد العامة التي تمت إلى ذلك بصلة .

الزاوية الرابعة :

الغيرية المطلقة : ورفض الأنانية ، بحيث يمكن الفرد في أية لحظة أن يضحي بكامل كيانه في سبيل الهدف الذي عمل من أجله .

صفحة (418)

إلى غير ذلك من الزوايا ، التي يكون التعبير عنها باختصار سهلاً ، وأما تعميقها وتطبيقها في عالم الحاية ، في غاية الصعوبة ، مضافاً إلى المستويين الأول والثاني ، العاملين لكل قائد . ومن هنا احتاجت القيادة الالهية إلى تعليم.

وهذا هو الذي حصل ، بعدما قام التخطيط الالهي ، على إيجاد السبب المزدوج في القائد : القابلية الذاتية والقابلية التربوية ، ومنه نستطيع اقتناص عدة نتائج مهمة :

النتيجة الأولى :

حين يكون السبب في التربية هو التعليم المباشر من قبل الله تعالى أو المتصل به بالواسطة ... يكون من المستحيل عادة وجود قائد عالمي يقوم في قيادته على أساس مادي .  وهو – أيضاً – مما لم يحدث في أي فترة من التاريخ. فان القيادة العالمية لا تكون إلا من التعليم الالهي ، ذلك التعليم المنافي للأساس المادي . وكل القواد الدنيويين أو الماديين ليسوا عالميين على أي حال ، وإن قادوا دولاً كبيرة .

النتيجة الثانية :

إذا كن هذا هو سبب وجود القائد ، أمكننا دحض كل خلافة يدعيها صاحبها ويقوم بها عن طريق "السيف" في أي عهد متأخر عن صدر الاسلام ، مما يكون قبل الظهور . كخلافة العباسيين والعثمانيين أو كل من كان على وتيرتهم، ممن نعلم بعدم توفر هذا السبب لديه ولدى أعقابه من الخلفاء .

النتيجة الثالثة :

أننا نقول نفس الشيء بالنسبة إلى المهدي الذي يولد في آخر الزمان ، طبقاً للفهم غير الامامي .

فانه بعد وضوح انتفاء الوحي بالنسبة غليه ، لا يكن قابلاً للقيادة العالمية التي يجب أن يتكفلها بعد انفصاله عن التربية الالهية المباشرة وبالواسطة أيضاً .  فأنه لا يوجد في عصره قائد عالمي سابق عليه ليباشر تعليمه وتكميله.

فإن قال قائل : إن لتمحيص الساري المفعول خلال عصر الغيبة الكبرى ، كفيل بإيجاد مثل هذا الشخص .

قلنا له : كلا ، فان غاية ما للتمحيص من مقدرة هو إيجاد الأفراد المخلصين إلى درجة عالية ، بحيث يستطيعون المشاركة في قيادة العالم ، تحت إشراف القائد الأكبر .  وأما أن يخلق التمحيص شخصاً له قابلية قيادة العالم ، من خلال عدد محدود من السنوات ...فلا .

صفحة (419)

فإن قال قائل : فان التمحيص يمكن أن يفرض مضاعفة بالنسبة وإليه وتشديده عليه ، ليصنع منه قائداً عالمياً .

قلنا في جوابه ك إن التمحيص قاصر أساساً على إيجاد القائد العالمي . فان التمحيص شيء والقيادة شيء آخر .  ولولا التعليمات الموسعة التي يتلقاها الممحصون من قبل المهدي (ع) لقيادة العالم بعد ظهوره ... لما أمكنهم ممارسة القيادة لمجرد كونهم ممحصين .  فان ما يفعله التمحيص هو تقوية الايمان والاخلاص وقوة الارادة ، وهذا مما لا يكفي وحده لقيادة أياً كانت ، فضلاً عن قيادة العالم .  وإن كان يكفي لأن يصبح الفرد جندياً فدائياً في جيش عقائدي ثوري . وليس للمخلصين الممحصين من وضعية في غزو العالم أكثر من ذلك .

ونحن ، وإن كنا لا ننكر ما للتمحيص من أثر بالغ في تثقيف الفرد من النواحي الأخلاقية والدينية ، واطلاعه على المناقشات المناسبة لتيارات الانحراف في عصره من وجهة نظر الاسلام .  إلا أنها – على أي تقدير – لا يمكن أن تفي بالقيادة العالمية .

إذن ، فلا يمكن للتمحيص أن يوجد المهدي على المستوى المطلوب .  وكل شخص وجد متأخراً في الزمان منفصلاً عن التعليم الالهي ولو بالواسطة ... فأنه لا يمكن أن يقوم بمهمة اليوم الموعود .

فإن قال قائل : إن المهدي متصل بالله تعالى مباشرة عن طريق الالهام ، كما يقول به ابن عربي في الفتوحات المكية(1)وغيره . ومعه فالالهام هو الذي يباشر تربيته ولا حاجة له إلى تلقي التعليم بالواسطة .

قلنا له : ان هذا صحيح ، بالنسبة إلى زمن توليه القيادة فعلاً ، ولا كلام لنا في ذلك .  وإنما الكلام في جعله قائداً لكي يمارس مهمته بعد ذلك .  ولم يدع ابن عربي تلقي المهدي للالهام قبل توليه القيادة ، كذلك وكل من يفهم المهدي بغير الفهم الإمامي .
_________________________________
(
1) أنظر الباب السادس والستين والثلاثمائة من المجلد الثالث ، ص 327 وما بعدها .

صفحة (420)