الغيبة الكبرى هي الزمان الذي يبدأ بانتهاء الغيبة الصغرى ، بالإعلان الذي أعلنه
الإمام المهدي عليه السلام ، عام 329 للهجرة ، بانتهاء السفارة وبدء الغيبة
التامة وأنه لا ظهور إلا بإذن الله عز وجل(1) .
وهو الذي ينتهي بيوم الظهور الموعود الذي يبزغ فيه نور الإمام المهدي عليه السلام
، وتسعد البشرية بلقائه ليخرجها من الظلمات إلى النور ، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً
كما ملئت ظلماً وجوراً .
ومعه نكون الآن معاصرين لهذه الفترة التي نؤرخها ،وسبقى الناس معاصرين ، لها ،
حتى يأذن الله تعالى بالفرج.
والإسلام والمسلمين يمرون في هذه الفترة بأصعب الظروف التي عاشوها ، بل التي
عاشها أهل سائر الأديان السماوية ، بشكل عام . باعتبار ما تتصف به من خصائص
ومميزات يجعلها من أحرج الأحوال في منطق الإسلام بالنسبة إلى ما سبقها وما يلحقها
من الدهور .
الخصيصة الأولى :
وهي الرئيسية التي تعطي هذه الفترة شكلها المعتاد . وهي : أن المسلمين منقطعون
بالكلية عن قائدهم وموجههم وإمامهم ، لا يجدون إلى رؤيته والتعرف عليه سبيلاً ،
ولا إلى الاستفادة من أعماله وأقواله طريقاً . ولا يجدون له وكيلاً أو سفيراً
خاصاً ، ولا يسمعون عنه بياناً ولا يرون له توقيعاً ، كما كان عليه الحال
خلال الغيبة الصغرى . إذ في هذه الفترة التي نؤرخها يكون كل ذلك قد انقطع بشكل
عام .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 415 وما بعدها وص 366 وما بعدها .
صفحة (19)
وبذلك تتميز هذه الفترة عن سائر الفترات في عمر الإسلام والمسلمين . فهي تختلف عن
زمان وجود النبي (ص) وزمان الأئمة الاثني عشر عليهم السلام زمان ظهور المهدي عليه
السلام ، بوجود القائد والموجِّه خلال تلك الفترة دون هذه الفترة . وتختلف عن
زمان الغيبة الصغرى بوجود السفراء للمهدي (ع) وصدور البيانات والتوقيعات عنه،
خلال تلك الفترة ، دون هذه الفترة التي نؤرخها .
الخصيصة الثانية :
سيادة الظلم والجور في الأرض ، بمعنى انحسار الإسلام بنظامه العادل عن المجتمعات
البشرية , وما تعانيه البشرية – نتيجة لذلك – من أنحاء التعسف والانحراف والظلم
والحروب .
وبذلك تتميز هذه الفترة عن زمان سيادة النظام الإسلامي الكامل ، وهو ما كان في
زمان وجود النبي (ص) وإقامته لدولة الحق ، وما سيكون عند ظهور الإمام المهدي (ع)
وإقامته لدولة الحق أيضاً .
وتشترك فترة الغيبة الكبرى ، بهذه الخصيصة ، مع كل أزمنة انحسار الإسلام – ولو
انحساراً جزئياً – عن واقع الحياة . كأزمنة الخلفاء الأمويين والعباسيين . وإن
كانت ظروفنا المتأخرة أشد وأقسى مما قبلها من حيث سيادة المبادئ المادية وقسوة
الظلم والتعسف ، وتهديد البشرية بالفناء بالحرب العالمية الثالثة .
الخصيصة الثالثة تأكد الامتحان الإلهي ووضوحه :
فإن كل فرد – على الإطلاق – يواجه في هذه الفترة مزالق ثلاثة ، تشكل خطراً على
دينه وعلى دنياه ، وبمقدار ما يبذله من تضحية وما يملكه من قوة في الإرادة ، فأنه
يستطيع أن يضمن سعادته وحسن مستقبله ونجاحه في الامتحان الإلهي .
صفحة (20)
المزلق الأول :
ما يواجهه الإنسان من شهوات ونوازع ذاتية طبيعية ، تتطلب منه الإشباع
بإلحاح ، ولا يسكن صوتها إلا بالإشباع التام ، وهي تتطلبه من أي طريق كان ، لا
تعين لصاحبها الطريق المشروع خاصة . بل يمكن أن تطلق لصاحبها العنان فلا يبصر ما
بين يديه من قوانين وتقاليد وأديان وحدود .
وهذا المزلق غير خاص بعصر الغيبة الكبرى ، ولكنه فيها أكد وأشد تأثيراً باعتبار
زيادة الإغراء وتلبيس الانحراف باللبوس المنطقي الزائف .
المزلق الثاني :
مواجهة الإنسان لضروب الاضطهاد والضغط والصعوبات التي يواجهها في طريق الحق
والإيمان . مما يحتاج في مكافحته إلى قوة في الإرادة والعزم على التضحية .
وهذا المزلق يواجهه الفرد في زمن انحسار الإسلام عن واقع الحياة . بما في ذلك
زمان الغبية الكبرى .
المزلق الثالث :
مواجهة الإنسان لضروب التشكيك في وجود الإمام القائد المهدي عليه السلام ، كلما
طال الزمان وابتعد شخص الإمام عن واقع الحياة ، وطغت على الفكر الإنساني التيارات
المادية التي تستبعد عن حسابها عالم الروح ، وكل ما هو غير محسوس ولا منظور .
وهذا المزلق ، يواجهه الفرد في زمان غيبة الإمام عليه السلام . وخاصة في غيبته
الكبرى التي ينعدم فيها السفراء . وبالأخص بعد النهضة الأوروبية المادية وبدء عصر
الاستعمار وطغيان التيار المادي العالمي الجارف .
وبمقدار ما يستطيع الفرد من تحصيل المناعة ضد هذه التيارات ، والصمود الفكري
أمامها ، والتركيز على مفاهيم الإسلام وبراهينه ، فأنه يستطيع أن يضمن سعادته عند
الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
وكل هذه المزالق الثلاثة ، تجتمع بإلحاح وتأكيد ، في عصر الغيبة الكبرى بشكل واضح
وصريح . ومن هنا كان الامتحان الإلهي لصلاحية الفرد إسلامياً وقوة إرادته
إيمانياً ، كان شديد الوقع كبير التأثير صعب الاجتياز . ومن هنا ورد في بعض
النصوص عن أئمة الهدى عليهم السلام حين سئلوا عن موعد ظهور
المهدي (ع) : لا والله حتى تمحصوا ، ولا والله حتى تغربلوا ، ولا والله حتى يشقى
من يشقى ويسعد من يسعد(1) .
صفحة (21)
وهذا الامتحان الإلهي إنما شرع وأنجز "ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة"(2)
. فإن من يشقى وينحرف ، يكون مقتنعاً بصواب رأيه وعمله ، فيهلك شقياً منحرفاً ،
فيستحق اللعنة الإلهية والخسران الأبدي . وأما من سعد بإيمانه نتيجة للامتحان ،
فإن إيمانه يكون صلباً قوياً ممحصاً ، بمعنى كونه ثابتاً رغم الظلم والطغيان ،
ونتيجة للصمود والانتصار . وهو من أعظم وأوعى الإيمان . فيحي كل منهما ببينة،
ويهلكان عن بينة .
صيغة البحث ومصاعبه :
إن تاريخ الغيبة الكبرى ، من حيث حوادثه العامة لعله من أوضح التواريخ وأسهلها
تسجيلاً ، لأنه من التواريخ القريبة أو المعاصرة التي لا زلنا نعيشها ونمارس
حوادثها .
إلا أن تاريخ هذه الفترة ، فيما يخص المهدي عليه السلام ، من أشد الغموض والتعقيد
، وصعوبة الاستنتاج ، لما سنشير إليه من العوامل . فإن الباحث الذي يطرق هذا
الباب سوق يواجه عدداً ضخماً من الأسئلة لا بد من الجواب عليها ، ليكون البحث
بحثاً تاريخياً منظماً واعياً إسلامياً . وأما مع إهما بعضها أو قسم منها ، فأننا
سنواجه فراغات أو فجوات تاريخية مؤسفة .ومن هنا تكون وظيفة الباحث تحصيل الجواب
على أكثر الأسئلة – على الأقل – ليتم لنا التاريخ المنظم الكامل الواعي .
فمن الأسئلة التي نواجهها : التساؤل عن مكان الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى ،
وطريقة حياته ، وأسباب عيشه الاعتيادية ، وهل يواجه الناس ، ومتى يواجههم ، وماذا
يقول لهم ، وما هي سياسته العامة أمام المجتمع بشكل عام ، وتجاه قواعده الشعبية
المؤمنة به ، بشكل عام ، وتجاه الذين يقابلونه بشكل خاص .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر الحديث وايضاحات الامتحان الإلهي في داخل هذا الكتاب .
(2) الأنفال : 8 / 42 .
صفحة (22)
وكيف يقضي وقته الطويل في خلال هذه السنين المترامية والقرون المتطاولة .
وهل هو متزوج وله ذرية أم لا ؟ وإذا كان متزوجاً فمن هي زوجته ، وأين هم أولاده ؟
وإذا لم يكن متزوجاً ، فهل يمكنه الزواج ، ومتى يتزوج ؟
ثم أنه هل من المستطاع تخمين وقت ظهوره إجمالاً ؟ وما هي العلامات التي نعرف بها
قرب وقت الظهور. وهذه العلامات الواردة في الأخبار ، ما الذي يصح منها وما الذي
لا يصح . وما هو الأسلوب الواعي الذي يمكننا أن نفهم به من هذه العلامات ... إلى
غير ذلك من الأسئلة الكثيرة المتنوعة .
والجواب على عدد من هذه الأسئلة ، وإن كان ممكناً على ضوء ما وردنا من الأخبار عن
المعصومين عليهم السلام ومن الأخبار التي تضمنت مشاهدة الإمام عليه السلام . إلا
أن عدداً آخر من الأسئلة لم يرد جوابه في رواية على الإطلاق ، أو ورد جوابه
غامضاً مجملاً ، أو بشكل قام الدليل العقلي أو الشرعي على فساده وبطلانه .
ومن هنا نستطيع أن نلخص عوامل التعقيد والغموض في هذا البحث في العوامل التالية :
العامل الأول :
ضآلة أو انعدام الدليل الصالح للجواب على بعض الأسئلة ، كما أشرنا ، كالإشارة إلى
مكانه أو طريقة حياته أو تحديد سياسيته العامة تجاه الآخرين ... كما سنسمع .
العامل الثاني :
إن بعض ما وردنا من الأخبار ، قام الدليل على بطلانها ، واقتضت القواعد العقلية
أو الشرعية بطلانها . وذلك نتيجة لعد العوعي ، والانحراف الذي عاشه بعض الرواة
نتيجة تأثرهم بعوامل الشر السائدة في عصور الغيبة الكبرى . ومن هنا كان لا بد من
أخذ الأخبار بحذر ، والنظر إليها بمنظار النقد .
العامل الثالث :
إن أغلب بل جميع ما وردنا من الأخبار مما يصلح تاريخياً لهذه الفترة ، لا نجدها
تواجه المشكلة المطروحة بصراحة أو تعطينا الجواب بوضوح .
صفحة (23)
|