ونحو ذلك الخبر السابق عن الإمام موسى بن جعفر(ع) الذي يقول فيه : ولكن أن تعيشوا
فسوف تدركوه . فأنه من المؤكد أنهم لو عاشوا لأدركوه ، ولو استلزم عيشهم أن يبقوا
في الحياة مئات السنين . ولكنه لم يقل أنهم سوف يعيشون فعلاً إلى عصر الظهور .
غير أن الانطباع الأولي لأهل ذلك العصر ، عن هذا الحديث ، هو أن الظهور يمكن أن
يحدث خلال عمر طبيعي للإنسان ... أو أنه يحدث كذلك فعلاً .
وأخرج الصدوق(1) عن زرارة عن الإمام الباقر (ع) أنه قال : ان للقائم
غيبة قبل ظهوره . قلت : ولم . قال: يخاف . وأومأ إلى بطنه . قال زرارة : يعني
القبل .
وعن أبي عبدالله الصادق (ع) قال : للقائم غيبة قبل قيامه ، قلت : ولم . قال :
يخاف على نفسه الذبح .
وهذا صحيح . إلا أنه لم يحدد مقدار الغيبة ولا انقسامها ، تبعاً لمستوى السامعين
.
وأخرج النعماني(2) عن أبي جعفر بن محمد بن علي عليهما السلام أنه قال
: يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشاعب . وأومأ بيده إلى ذي طوى ...
الحديث .
وقد احتج البرزنجي(3) بهذا الحديث لأجل استبعاد الفهم الأمامي للمهدي
. ولا بد أن يكون مراده أن الغيبة بين الشعاب لا تكون إلا خلال العمر الطبيعي
للإنسان .
وهذا المضمون وإن ناقشناه في التاريخ السابق(4) ... إلا أنه يمكن
القول بصحته ، بعد التنزل – جدلاً – عن تلك المناقشة . ولا يكون الخبر منافياً مع
الفهم الإمامي بحال . لوضوح أنه يمكن أن نتصور المهدي (ع) ساكناً في الشعاب
والبراري والقفار طيلة غيبته مهما طالت . ولا يتعين كونها غيبة ذات مدة قليلة ،
كما هو معلوم .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر الاكمال المخطوط ، وكذلك الذي يليه .
(2) الغيبة ، ص 95 .
(3) الإشاعة ، ص 93 .
(4) تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 546 .
صفحة (15)
قد سمعنا في التاريخ السابق(1) ما روي عن الإمام المهدي (ع) نفسه ،
فيما قاله لعلي بن المازيار : يا ابن المازيار ، أبي أو محمد عهد إليّ أن لا
أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم
. وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا أوعرها ، ومن البلاد إلا عفرها .
إذن فمن الممكن أن يكون المراد من كلا الخبرين ، مضمون واحد . غير أن هذا المضمون
لم يثبت تاريخياً، كما سمعنا في التاريخ السابق ، وسيتضح بجلاء في القسم الأول من
هذا التاريخ .
- 7 -
بقيت علينا بعض الاستفهامات التي قد تثار حول بعض ما سبق .
الاستفهام الأول :
إن بعض الأخبار ، التي رويناها في الفقرة الأولى من هذا البحث ، دلت على أن
الغيبة الطويلة ، تحدث قبل القصيرة. كقوله في بعضها : للقائم غيبتان إحداهما
طويلة والأخرى قصيرة . وقوله في الخبر الآخر : إحداهما أطول من الأخرى . وهذا ما
دل على ما ذكرناه .
وجوابه : إن المراد من ذلك ، الإخبار عن وجود الغيبتين . وأما تقديم الغيبة
الطويلة بالذكر ، فباعتبار أهميتها لا باعتبار سبقها الزماني على الغيبة الأخرى .
وقد قال في نفس الخبر : فالأولى يعلم بمكانه الخاصة من شيعته ، والأخرى لا يعلم
بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه . وهو نص بتقدم الغيبة الصغرى التي تتصف
بقلة الاحتجاب على صاحبتها .
ــــــــــــــــــ
(1) المصدر والصفحة .
صفحة (16)
الاستفهام الثاني :
قوله في بعض تلك الأخبار : يظهر في الثانية . فأنه دال على أنه (ع) يظهر
خلال الغيبة الثانية . فكيف يصح ذلك ؟
وجوابه : أن هذه الفكرة التي فهمها السائل تتضمن تهافتاً في التصور ، لتنافي
الغيبة مع الظهور ، فلا معنى لأن يظهر وهو غائب . وإنما المراد أنه يظهر بعد
انتهاء الغيبة الثانية . كما هو معلوم .
الاستفهام الثالث :
قوله في بعض تلك الأخبار : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين في إحداهما يرجع إلى أهله .
وهو دال على أن المهدي (ع) خلال الغيبة الصغرى يرجع إلى أهله . فما معنى ذلك ؟
وجوابه : أننا سمعنا في التاريخ السابق(1) أن الإمام المهدي (ع) كان
ساكناً في دار أبيه في سامراء ردحاً من عصر غيبته الصغرى . وهو دار أهله بطبيعة
الحال ، كما نطق هذا الخبر .
ويحتمل أن يكون المراد إعطاء فكرة قلة الاختفاء خلال الغيبة الصغرى ، مشبهاً بمن
يخرج من أهله ويعود. ومن هنا يقول في الخبر – بالنسبة إلى الغيبة الكبرى – :
والأخرى يقال : هلك في أي واد سلك .
الاستفهام الرابع :
سمعنا المفيد فيما سبق يقول : فأما القصرى منهما ، منذ وقت مولده إلى انقطاع
السفارة بينه وبين شيعته. وكذلك قال ابن الصباغ .
على حين سمعنا من التاريخ السابق(2) أن أول الغيبة الصغرى هو يوم وفاة
الإمام العسكري (ع) والد المهدي (ع) . وليس أولها ولادة المهدي نفسه ... وإن كان
مختفياً فعلاً خلال حياة أبيه . فأي الوجهين هو الصحيح ؟
وجوابه : إن الوجه الذي اخترناه في التاريخ السابق هو الصحيح ، وهو بدء الغيبة
الصغرى ، بوفاة الإمام العسكري (ع) ، وقد سبق أن برهنا عليه هناك .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 543 .
(2) المصدر السابق ، ص 4 .
صفحة (17)
- 8 -
وبكل ذلك ، يتبرهن انقسام الغيبة إلى صغرى وكبرى ، بالمفهوم الإمامي .
وإذا كان هذا من صفات المهدي (ع) ولم ينسجم إلا مع المفهوم الإمامي ، يتعين الأخذ
بهاذا المفهوم بالخصوص .
وطبقاً لذلك ، كتبنا فيما سبق تاريخ الغيبة الصغرى أولاً ، ونكتب الآن تاريخ
الغيبة الكبرى ، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك .
صفحة (18)
|