الناحية الخامسة :
في شرح المفاهيم والتنبؤات الرئيسية التي وردت في هذا الخطاب . ويمكن إعطاء
تفاصيل ذلك ، ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
قوله (ع) : قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة .
فإن المهدي (ع) لا يقوم بالعمل إلا بإدن الله تعالى ، وحيث صدر الإذن بإرسال هذا
الكتاب ، فقد تصدى المهدي لإرساله .
ولفهم هذا الإذن أطروحتان :
الأولى : صدور الإذن المباشر من قبل الله عز وجل في كل واقعة واقعة . ذلك الإذن
المستفاد بالإلهام ونحوه من مراتب العلوم التي يختص بها الإمام المعصوم (ع) كما
دلت عليه بعض الأخبار .
الثانية : الإذن الإلهي المستفاد من بعض القواعد العامة التي يعرفها المهدي عليه
السلام ، ويستطيع تطبيقها في كل مورد . تلك القواعد التي نعبر عنها باقتضاء
المصلحة الإسلامية لشيء من الأشياء . فإذا أحرز المهدي (ع) ، وجود المصلحة في
المراسلة مثلاً ، فقد أحرز وجود الإذن الإلهي بالعمل على طبق تلك المصلحة . ومعه
يكون سبب الإذن، هو وجود المصلحة ليس إلا ، من دون إذن مباشر ، كما قالت
الأطروحة الأولى .
وترجيح إحدى الأطروحتين على الأخرى موكول إلى القارئ .
النقطة الثانية :
قوله عليه السلام : أعزهم الله بطاعته .
وهو تنبيه إلى استلزام الخروج عن طاعة الله تعالى للذل والصغار ، واستلزام
الالتزام بها للعز والشرف . فيجب الخروج من ذل معصية الله والدخول في عز طاعة
الله تعالى .
وذلك واضح جداً بحسب مفاهيم الإسلام ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . والخضوع
لله تعالى هو الخضوع للحق من ناحية ، وخضوع مجانس لما
خضع له الكون كله وهو القدرة الأزلية والحكمة اللانهائية ، وكلا الأمرين عدل وحق
ن بمنطق العقل الصحيح .
صفحة (147)
على أن الخضوع لله عز وجل ، بمعنى الالتزام بأوامره ونواهيه وقصر السلوك عليها ،
يغني الفرد عن اتباع سائر مصادر التشريع البشرية المنحرفة التي على الانزلاق إلى
مهاوي الباطل ، وعلى رأسها المصالح الشخصية والقوانين الوضعية ... فيكون الفرد
متعالياً عنها عزيزاً منيعاً من جهتها .
على حين أن البعد عن الالتزام بتعاليم الله العادلة ، يستلزم – لا محالة – وجود
فراغ في السلوك ، يملؤه الفرد بأساليب الانحراف ، فيكون خاضعاً لمقتضياته ،
وذليلاً أمامها . وهو معنى ذلة معصية الله عز وجل .
وهناك أكثر من معنى آخر ، لمعنى العزة في طاعة الله عز وجل ، لا حاجة إلى الإطالة
، بسبب بيانه .
وعلى أي حال ، فهذا هو المراد بقوله : أعزهم الله بطاعته . وبقوله : ومعرفتنا
بالذل الذي أصابكم منذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ،
ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .
فإن السلف الصالح كان عزيزاً بطاعة الله تعالى والالتزام بتعاليمه ، وكان شاسعاً
– أي بعيداً – عن معصية الله عز وجل . وكان ملتزماً بالعهد الذي قطعوة أمام ربهم
بالطاعة ، بصفتهم مسلمين إليه عارفين بأهمية تعاليمه .
فلما اتجه الخلف إلى ما كان السلف مبتعداً عنه ، وهو المعصية ومخالفة التعاليم
الإسلامية ، أصبحوا أذلاء أمام مقتضيات الانحراف والمصالح الخاصة ، وبالتالي أمام
أعداء الحق والإسلام . فأصبحوا مقصرين تجاه دينهم وعهد ربهم وأمتهم وأنفسهم .
ومن هنا نشعر – من وراء التعبير – بالمرارة والأسف الذي يعتلج في نفس الإمام
المهدي (ع) من هذا الانحراف .
النقطة الثالثة :
قوله : نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين ، حسب الذي
أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ، ما دامت دولة الدنيا
للفاسقين .
صفحة (148)
وهذا البعد عن مساكن الظالمين ، لا ينافي أياً من الأطروحتين الرئيسيتين ، وكأن
في هذا امتثالاً للأمر الذي ذكره المهدي لعلي بن مهزيار عن والده عليه السلام في
أنه يسكن أقاصي الأرض وقفارها . وهو في ذلك المكان النائي يمكن أن يكون مختفي
الشخص طبقاً لأطروحة خفاء الشخص ، أو ظاهر الشخص ، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان .
وإذا كان مناسباً مع كلا الأطروحتين لم يكن نافياً لأي منهما ، ولا معيناً
لإحداهما . وإن كان لا يخلو – على كلا الأطروحتين – من بعض المناقشات ، التي لا
مجال للدخول في تفاصيلها .
وهذا الصلاح الذي يشير إليه في هذه العبارة ، يمت في الحقيقة إلى أصل الغيبة بصلة
، لا إلى مجرد النأي في المكان ،وإنما أخذ ذلك في السياق استطراقاً إلى الإشارة
إلى مفهوم الغيبة نفسه . ومعه فالصلاح الذي رآه الله تعالى للمهدي وللمؤمنين به ،
إنما هو في الغيبة نفسها . وهذا ما سيأتي تفصيله في القسم الثاني من هذا التاريخ.
النقطة الرابعة :
بيانه عليه السلام أنه يعيش على مستوى الأحداث ، يحيط علماً بكل الأنباء وتصله
جميع الأخبار . حين قال: فأنا نحيط علماً بأنبائكم ، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم
.
صفحة (149)
|