وقد سبق أن ذكرنا أنه لا حاجة إلى المعجزة إلا بمقدار إقامة الحجة ، ويكون الزائد أمراً مستأنفاً لا يصدر عن الخالق الحكيم . ومعه لا بد من إسقاط المعجزات الزائدة عن ذلك عن نظر الاعتبار ، ما لم نجد لها وجوهاً للتصحيح ... وإن كان ذلك لا يسقط مجموع الرواية ولا الدلالة على مقابلة الإمام المهدي ، لما ذكرناه من أن سقوط بعض مدلول الرواية لا يقتضي سقوط الجميع .

إلا أننا لا نعدم وجوهاً للتصحيح :

الوجه الأول :

أننا وإن قلنا أن المعجزة منحصرة بمورد إقامة الحجة ، إلا أن ذلك كما يقتضي عدم زيادتها على ذلك يقتضي عدم نقصها عن هذا الحد أيضاً . فلا بد من إقامة المعجزة بنحو يقنع الفرد العادي ، وينتفي بها احتمال الصدفة والتزوير، ولا تكون قاصرة عن ذلك . وأما لو كانت المعجزة مختصرة وغير ملفتة للنظر ، فقد لا تحمل الفرد الاعتيادي على الاقتناع .

ومعه فقد تمس الحاجة – أحياناً – إلى ضم أكثر من معجزة واحدة إلى بعضها البعض ، لكي تحصل القناعة . وهذا هو الذي وقع في عدد من أخبار المشاهدة التي نحن بصدد الحديث عنها . وقد سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى كيف كان يقيم المهدي (ع) دلالتين منضمتين ، حيث يقول بعض المؤمنين لأخيه المؤمن : لا تغتم فإن لك في التوقيع إليك دلالتين : إحداهما : إعلانه إياك أن المال ألف دينار . والثانية : أمره إياك بمعاملة أبي الحسين الأسدي لعلمه بموت حاجز .

الوجه الثاني :

أن نفهم – ولو احتمالاً - : أن الإمام المهدي (ع) له اهتمام خاص بالشخص الذي يقابله ، بحيث يريد أن يقيم له حجة واضحة جداً . فيضم معجزة إلى معجزة ، حتى يتحقق ذلك . ويكون ذلك واقعاً في طريق إقامة الحجة عليه ، فينسجم مع قانون المعجزات .

الوجه الثالث :

أننا ذكرنا أنه قد يحتاج المهدي (ع) أحياناً إلى أكثر من معجزة واحدة ، لكي تكون إحداها للدلالة على حقيقته وتكون الأخرى للاختفاء الإعجازي لدى الحاجة .

صفحة (97)

وهذا صحيح ، لولا ما قلناه من أن الاختفاء يكون طبيعياً وغير ملفت للنظر على الأغلب ، وما سوف نقوله من أن معجزة واحدة كافية لإيجاد كلا الأثرين :

أعني الدلالة على حقيقته والاختفاء .

وعلى أي حال ، فلا بأس من تعدد المعجزة في الحادثة الواحدة ، ولكن إن ثبت أنها مما لا مبرر لها بحسب القواعد العامة ... فلا بد من طرحها عن مدلول الرواية ، وإن لم يكن طرحها ملازماً لطرح كل المدلول .

القسم الثاني :

ما كان منها مكرساً على قضاء الحاجات الشخصية ، وهو الأعم الأغلب من أخبار المشاهدة . وأما ما كان منها لقضاء حاجة عامة أو هداية مجتمع كامل أو إنقاذه من الظلم ونحو ذلك ... فهو قليل الوجود في هذه الروايات ، على ما سوف نشير إليه .

ونحن في فسحة واسعة – بعد كل الذي عرفناه – من حيث إمكان ذلك ، وتعقل صحته ومطابقته مع القواعد العامة. وذلك من أجل عدة وجوه :

الوجه الأول :

إن المهدي (ع) يكرس عمله الاجتماعي المثمر العام ، بصفته مختفياً ، او بشخصيته الثانية . وقد سبق أن حملنا فكرة كافية عن أسلوبه في ذلك . لأنه عليه السلام يرى أن ذلك أضمن لسلامته ، ومن ثم يكون أفسح فرصة لتعدده وكثرته وعمق تأثيره ، بدون أن يعرف أحد أن التأثير وارد من قبل المهدي (ع) ليكون منقولاً عنه في أي رواية من الروايات . 

الوجه الثاني :

أن نحتمل – والاحتمال كاف في أمثال هذه الموارد ، كما برهنا عليه في المقدمة – : إن الإمام المهدي (ع) عمل أعمالاً عامة عديدة في خلال العصور بصفته الحقيقية . ولكنه لم ينقل خبره إلينا إلا بهذا المقدار القليل . وذلك : لأحد مانعين :

الأول : إن الإمام بنفسه يأمر الآخرين بالكتمان ، أما لتوقف غيبته على ذلك ، إن لتوقف نفس المخطط الإصلاحي عليه أحياناً . كما لو كان يتوقف على إقناع أشخاص من غير قواعده الشعبية .

صفحة (98)

الثاني : إن العمل الشخصي بطبيعته أكثر إلفاتاً للنظر وأجدر بالنقل والرواية من العمل الاجتماعي العام ، في نظر أولئك الرواة غير الواعين الذي ينظرون إلى الكون والحياة من زواياهم الخاصة ومصالحهم الضيقة . وقد كان البشر ولا يزالون محافظين على هذا المستوى الواطئ ، وسبقون كذلك إلى يوم ظهور المهدي (ع) وقيامه بالعدل التام .

ومن ثم كان العمل الاجتماعي مهملاص في نظر الرواة ، وكان العمل الشخصي مؤكداً عليه عندهم ومنقولاً بإسهاب في رواياتهم . ومن هنا لا نجد من الروايات الدالة على عمل المهدي (ع) في الحقل العام إلا القليل.

الوجه الثالث :

أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق – إن عدداً من المظالم العامة والخاصة الموجودة في العالم على مر العصور ، لا يتوفر فيها الشرط الأول من الشرطين اللذين ذكرناهما وقلنا أن كل شيء يكون على هذا المستوى يجب إهماله تنفيذاً للمخطط الإلهي في حفظ المهدي (ع) ليوم الظهور الموعود .

الوجه الرابع :

أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق أيضاً – : إن عدداً من أنحاء الظلم العام الساري في المجتمع على مر التاريخ ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الشرطين السالفين ... بمعنى كونه دخيلاً في تحقيق وعي الأمة وإدراكها لمسؤولياتها الإسلامية تجاهواقعها وتجاه نفسها وربها ومستقبلها . وهذا هو أحد الشروط الأساسية في تحقق ظهور المهدي عليه السلام على ما سنعرف. إذن فالمهدي ، حرصاً على تحقق شرط الظهور ،لا يعمل على إزالة هذا الظلم العام.

وهذا بخلاف الحال في المظالم الخاصة ، فأنها لو لوحظت منفردة لا تكاد تؤثر في وعي الأمة .

صفحة (99)

وعلى أي حال ، فما لا يكون دخيلاً في وعي الأمة أو الفرد ، يمكن أن يسعى المهدي (ع) إلى إزالته مع توفر سائر الشرائط فيه . وحيث كان عدم التأثير متوفراً في الظلم الشخصي ، وغير متوفر في الظلم العام ، كان عمل المهدي (ع) في إزالة الظلم الشخصي أكثر منه في إزالة الظلم العام. 

إذن ، فمن المنطقي جداص ، على أساس هذه الوجوه الأربعة ، المتوفر واحداً منها أو أكثر في كل مقابلة ، أن يصبح العمل العام للإمام المهدي (ع) أقل من العمل الخاص ، أو أن تكون روايته أقل على أقل تقدير .

القسم الثالث :

من روايات المشاهدة ، ما لا يظهر فيه الإمام المهدي (ع) على مسرح الحوادث بوضوح ، وذلك بالنسبة إلى الراوي – على أقل تقدير – . بل يقوم الدليل القطعي عند الراوي المتحدث أن شخصاً آخر رآه وعره أو رآه ولم يعرفه إلا بعد ذهابه .

وهذا القسم يمثل بعض ما ذكره الحاج النوري من الأخبار المئة في "النجم الثاقب" . وهو غير مضر بكونه من أخبار المشاهدة . فإننا لا نعني من المشاهدة : مشاهدة المتحدث عن نفسه والراوي عن رؤيته فقط ... بل مشاهدة أي إنسان للمهدي (ع) . وهذا ما تضمن هذه الروايات الأعراب عنه .

القسم الرابع :

الروايات التي تدل على وجود المهدي (ع) من دون أن يراه أحد ، لا بمعنى اختفائه اختفاء شخصياً ، بل بمعنى أن الناس قد يتوسلون إلى المهدي (ع) بالنداء والدعاء بأن يقضي حاجتهم ويتوسط إلى الله عز وجل في تذليل مشكلاتهم ، فتقضى حاجتهم وتحل مشاكلهم ، أما بشكل طبيعي اعتيادي ، وأما بشكل لم يكن متوقعاً لصاحب المشكلة أساساً ، بحيث يضطر إلى الإذعان والجزم بكونه حاصلاً نتيجة لدعاء المهدي (ع). وبذلك يثبت وجوده عليه السلام ، وعنايته بمن يتوسل إلى الله عز وجل في حل مشكلاته .

وهذا القسم يمثل بعض أخبار المشاهدة ، وهو موجود على مر التاريخ بالنسبة إلى الكثير من المضطرين والمحتاجين . فإن الإمام بقربه إلى الله تعالى وكماله لديه يكون مستجاب الدعوة ، فيمكنه أن يستعمل دعاءه في قضاء حوائج الآخرين ، حين يرى المصلحة في ذلك . 

صفحة (100)