وهذان الأسلوبان ، يدفعان ، فيما يتحققان فيه ، جميع الشبهات الثلاثة التي أوردناها ، إذ بعد حصول العلم أو الاطمئنان بوقوع الحادثة ، لا يضر بذلك ، أن يكون الناقل لهما متحيزاً لمذهب أو لمصلحة أو أن ملاحظته لم تكن منظمة ، إذ المفروض ، اتفاق الناقلين على النقل وعلى وقوع الحادثة .

الأسلوب الثالث :

إننا بعد اليأس عن حصول العلم أو الاطمئنان ، من النقل التاريخي في نفسه ، نستطيع الحصول على الوثوق بقول الناقل ، وإن كان منفرداً ، بحيث لا يبقى للشبهات السابقة أثر ملتفت إليه .

وهذا يتم بأحد نحوين :

أولهما :

الاطمئنان، بعد البحث في ترجمة هذا المؤرخ والاطلاع على خصوصياته الشخصية ، بانه ثقة مأمون عن الكذب والدس والخداع ، فيطمأن بأنه لم يتعمد الكذب في نقله التاريخي .

ثانيهما :

الاطمئنان بوجود الروح العلمية الموضوعية في نفس هذا المؤرخ ، باعتبار أن الإنسان بعد أن يتمرس في البحوث العلمية ، ويتعود على الأسلوب العلمي ، فإنه يغلب على الظن حصول الموضوعية العلمية والتجرد في نفسه، جهد الإمكان.أو على الأقل ، لا يضع خبراً مكذوباً نتيجة لمذهبه أو مصلحته ، أو بأي دافع شخصي آخر.


صفحة (29)

 

الأسلوب الرابع :

الحصول على الاطمئنان بوقوع الحادثة نفسها ، بقرائن خارجية أو اعتبارات عقلية ، توجب الظن بأنه من المناسب وقوع هذه الحادثة أو عدم وقوعها . كما لو كان القول المنسوب إلى الشخصية التاريخية ، أو الفعل المسند إليه ، مناسباً مع سلوكه العام المعروف عنه ، أو مع وجهة نظره تجاه الدين والحياة .

ولكن هذا لا يضر بوثاقه المؤرخ الناقل ، في سائر ما نقله من أخبار التاريخ ، إذ قد يكون الكذب غير مستند إلى تعمده الشخصي بل هو إما مستند إلى السهو منه إو من الرواة السابقين عليه أو اللاحقين له ، أو إلى عمدهم أحياناً ، ولا يتحمل المؤرخ نفسه ، من المسؤولية العامة ، إلا إذا وجدنا في كلامه الكثير من هذه الهفوات ، بحيث ينثلم الظن بوثاقته أساساً .

كما أن هذا الأسلوب الرابع ، قد يوجب قوة النقل التاريخي الضعيف أو الشاذ ، بحصول الاطمئنان به بما تقوم عليه من قرائن وما تحفه من اعتبارات .

وبهذه الأساليب الأربعة ، نستطيع أن ندفع الشبهات الثلاثة العامة على النقل التاريخي ، أو نقلل من تأثيرها جهد الإمكان . فاحتمال التحيز يرتفع بقليل أو كثير ، مع تعدد النقل وقيام القرائن الخارجية على صدقه ، كما أن احتمال الكذب بدافع شخصي آخر ، يكون مرتفعاً لنفس السبب .


صفحة (30)

 

كما أننا بعد تأكدنا يقيناً أو اطمئناناً ، من صدق الكلام ، لا يهمنا أن تكون الملاحظة منظمة أو غير منظمة ، على أن المطلوب في الملاحظة ، هو ترسيخ الحادثة في الذهن وتأكيدها في الذاكرة ، وهو ما يتوفر في الملاحظات غير المنظمة أيضاً ، كما في الحوادث التي يعتاد الإنسان عليها أو يهتم بها اهتماماً كبيراً أو يتعجب منها تعجباً شديداً أو يفرح بها فرحاً عظيماً أو يخافها خوفاً كبيراً .

فإن الراوي الذي يعيش الحادثة على إحدى هذه المستويات ، يندمج بها إلى حد كبير ، مما يوجب رسوخها في ذهنه وتعمقها في ذاكرته ، مما يفتح للمؤرخ فرصة كبيرة للاستفادة في هذا السبيل . ويندرج كامثلة لذلك : حوادث الحروب والمناصب السياسية أو الدينية ، والأمور المالية المهمة ، سواء مها الخاصة او العامة ، والمعجزات ، والوساطات بين الدول أو بين أهل النفوذ ، وغير ذلك .

على أننا لا نعدم الملاحظة المنظمة بالنسبة إلى جملة من المؤرخين ، فإن المؤرخ ، وإن كان يعرض للحوادث السابقة على عصره ، بطريق الرواية ، إلا أن بالنسبة إلى سني حياته ، وخاصة بعد عزمه على تأليف كتابه التاريخي، لا شك أنه سيلاحظ حوادث عصره بالملاحظة المنظمة الناشئة من تعمد التسجيل وعمق التفكير . وهذا يتوفر عادة في أواخر جوامع التاريخ ، كالطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم .


صفحة (31)