وبقي الأتراك وسائر الموالي هم المتنفذين ، حتى ظهر صاحب الزنج ، بثورته العارمة ، على ما سنذكره ، فتحول ثقل التفكير والقتال والأموال إلى مواجهته ومدافعته ، ونسيت النعرات الشخصية إلى حد كبير .

ثالثاً : الشغب والفتن في بغداد . فإنها لم تكن ـ وهي يومئذ خالية من الخلافة ـ خالية من المتاعب بالنسبة إلى سامراء . فكان فيها عدة فتن متتالية :

إحداها : ما كان عام 249 هـ فقد شغب الجنود الشاكرية ببغداد ، ونادوا بالنفير وفتحوا السجون وأخرجوا من فيها ، وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر . وكان أحد الأسباب لذلك احتجاجهم على الأتراك من يريدون من الخلفاء ويستخلفون من أحبوا من غير ديانة ولا نظر للمسلمين (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1)    الكامل جـ 5 ص 313 .


صفحة (61)

 

ثاينها : ما كان في أيام المستعين ، حين سار إلى بغداد غاضباً من شغب الأتراك والموالي ، واستيلائهم على دفة الأمور ، فوجهوا وفداً يعتذر إليه ويسأله الرجوع فلم يصغ إلى ذلك . فبايعوا المعتز في سامراء فعقد لأخيه أبي أحمد الموفق بن المتوكل القيادة لحرب المستعين ، وجعل إليه الأمور كلها . وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي ، فسار في خمسين ألفاً من الأتراك والفراغنة والفين من المغاربة (1). وحاصر بغداد ، وداما لحصار أشهراً ، واشتد البلاء وكثر القتل ، وجهد أهل بغدد حتى أكلوا الجيف ، وجرت عدة وقعات بين الفريقين ، قتل في وقعة منها ، نحو الفين من البغاددة ، إلى أن أكلوا وضعف أمرهم وقوي أمر المعتز (2) . وانتهى الأمر إلى تنازل المستعين عن الخلافة وخلعه لنفسه (3) .

فنرى من هذا المشهد ، كيف وقع العداء الفعلي والقتال الشديد بين خليفتين رسميين ، معترف بهما من قبل الجمهور ، بسبب هؤلاء الأتراك .

ثالثها : ما كان عام 252 هـ إذ شغب الجند في بغداء مطالبين بالأرزاق ، وإلا دوا أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز . وكان لمحمد بن عبد الله بن طاهر ، موقف في محاربتهم وتفريقهم . حتى ما إذا رأى الجند قد غلبوا على اصحابه ، أمر بالحوانيت التي على باب الجسر أن تحرق ، فاحترق للتجار متاع كثيرة ، فحالت النار بين الفريقين (4) .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1)    الكامل جـ 5 ص 321 .       (2)    العبر جـ 2 ص 252 .

(3)    الكامل جـ 5 ص 331 .       (4)    الكامل جـ 5 ص 332 .
 

صفحة(62)

 

رابعها: ما كان للجند ببغداد من الشعب عام 252هـ (1) بسبب مطالبتهم بمبايعة الموفق أبي أحمد بن المتوكل، بعد المعتز . ولكنهم أرغموا ، بعد لأي ، على مبايعة المهتدي ، بعد أن كانت سامراء قد بايعته .

الرابع : من خصائص هذا العصر ، وربما كان من أبرز سماته . وقد نشأ من ضعف الخلافة ، وعدم امتلاكها زمام الأمور ، وصرف سائر الطاقات والنشاطات في الحروب والمناوشات والعداوات الداخلية ، مع الإنصراف عن الأطراف وما يقوم به العمال من الأعمال. فصار اي واحد من أمراء الأطراف في الدولة الإسلامية الواسعة، غير مقيد بالإرتباط الوثيق بالعاصمة، إن شاء كان موالياً وإن شاء أصبح مستقلاً ، وناجزوا الآخرين القتال ، بحسب أطماعه في ترسيخ ملكه وتوسيع بلاده.

فكانت الحروب تدور في الأطراف ، بين الأمراء والولاة . وتستقبل المدن الإسلامية ، في كل فترة ، وجهاً جديداً يحكمها ويدير شؤونها ويجبي خراجها ، ولم يكن لأي حاكم بما فيه الخليفة نفسها ، من شفيع الأسيفه ، وما يملك من قوة وعتاد .

فمن أوضح تلك الموارد : الأندلس التي كانت في تلك الفترة مستقلة بالخلافة تحت حكم عبد الرحمن الناصر الأموي (2).

ـــــــــــــــــــــ

(1)    المصدر ص 343 .
(2)    الكامل ص 232 جـ 5 .


صفحة (63)