ثانيهما: أننا نستطيع أن نعرف بالدقة تاريخ هذا التوعد الذي ذكره الإمام حال سجنه ، وهو اليوم  الثاني لعيد الفطر من شهر ايلول عام 247 للهجرة .وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان بيد باغر ويغلون وجماعة من الأتراك ، في مجلس شرابه ليلة الرابع من شوال في نفس العام (1) ولم يكن بغا ولا وصيف ممن  شارك في قتله ، وسلموا على ابنه المنتصر بالخلافة.

الرواية الثانية: أن المتوكل دفع الإمام أبا لحسن الهادي عليه السلام إلى سعيد  الحاجب – الذي عرفناه – ليقتله. فوضعه سعيد في السجن حتى يتم قتله ،وحين قدم الراوي إلى سامراء في ذلك الحين دخل على سعيد. وكان سعيد يعلم بكونه موالياً للإمام علي (ع) . فقال له :أتحب أن تنظر إلى إلهك . يقصد بذلك الإمام استهزاء واستصغاراً . ولكن الراوي كان غافلا فلم يفهم وأجاب : سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار .

فأوضح سعيد مراده قائلاً :هذا الذي تزعمون أنه إمامكم . فصادف ذلك رغبة في نفس الراوي ، إلا أنه أجاب بحذر قائلاً ك ما أكره ذلك ، فأفهمه سعيد القصد من سجن الإمام (ع) وقال : وقد أمرني المتوكل بقتله وأنا فاعله ، وعنده صاحب البريد فقال : إذا خرج فادخل إليه .

ــــــــــــــــــــ

(1) الكامل ج5 ص303

 

صفحة (154)

 

وحين يخرج صاحب البريد من الإمام (ع) يدخل الراوي في الدار

- يعني الغرفة – التي حبس فيها الإمام ، فيرى قبراً يحفر ، قال: فدخلت وسلمت وبكيت   بكاء شديداً ،فقال : ما يبكيك؟ قلت : لما أرى قال: لا تبك فإنه لا يتم لهم في ذلك .فسكن ما بي .فقال ك إنه لا يلبث من يومين حتى  يسفك  الله دمه ودم صاحبه الذي رايته .قال :  والله ما مضى يومان حتى قتل.(1)

وهذه الواية لا تنافي الرواية الأولى ،  في التوقيت ، فإن المراد من قتله في يومين : قتله بعد يومين :     قتله بعد يومين ويكون سفك  دمه في  اليوم الثالث ، وهو نفس الموعد في الرواية الأولى .كما لا تنافي بينهما في تعيين من دفع المتوكل الإمام إليه ،إذ من الممكن أن نفترض أن المسؤول عن قتله هو سعيد الحاجب والمشرف عليه في سجنه هو علي بن كرر الذي تذكره الرواية الأولى كما أن خلو الأول من ذكر كون الغرض هو قتل  الإمام  ليس تنافياً صريحاً ، إذ من الممكن أن نفترض أن الغرض هو ذلك .

ولكنه لم يرد في تلك الرواية لنسيان الراوي لتفاصيل الحادثة ، أو خوفه من بعض سامعيه في ذكر محاولة المتوكل لقتل الإمام أو غير ذلك من الأسباب.

إلا أن الرواية الأولى ارجح من الثانية على أي حال .فإن الثانية تتضمن مضعفاً لإحتمال صحتها غير موجود في الأولى وذلك أنها نسبت للإمام (ع) قوله:أنه لا يلبث من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. فيقع السؤال عن صاحبه الذي قصده .

ــــــــــــــــــــ

(1) انظر الخرايج والجرايج ص59


صفحة (155)

 

وظاهر الكلام  أن المراد به سعيد الحاجب ، لأنه هو الذي كان الراوي قد رآه .

مع أن سعيد لم يقتل مع المتوكل ،  بل بقي حياً حتى سنة 257 حين أرسله المعتمد لحرب الزنج * وإنما قتل معه الفتح بن خاقان .فلا بد أن نفترض فرضاً مخالفاً لظاهر الكلام :أن  الراوي كان قد   رأى الفتح بن خاقان أيضاً ، وأنه فهم من كلام الإمام ذلك ،والله  العالم.

كما أن الرواية الأولى تتضمن مرجحاً لإحتمال صحتها ،وهو تسمية من باشر قتل المتكل من الأتراك ، وهو مطابق للتاريخ  العام بشكل عام، وقد ذكرنا في المقدمة أن هذا يصلح قرينة على صحة الرواية ، كما يصلح مرجحاً للأخذ   بها عند التعارض ،ولكننا  بعد إسقاط الأضعف في مقدرار التعارض يمكن أن نأخذ بها في مداليلها وتواريخها الأخرى .

خاتمة المطاف :

لا بد لنا في نهاية الحديث عن تاريخ إمامنا الهادي عليه السلام ، أن نشير إلى موقفين  له مهمين ،   يشار إليهما في التاريخ   بشكل موجز يكاد يكون عابراً .

الموقف الأول: موقفه عليه السلام من الموالي عامة والأتراك خاصة ،وهم من كانت العاصمة العباسية الجديدة :سامراء تزخر بهم ، وقد عرفنا مما سبق مدى تأثيرهم على السلطة وسيطرتهم  على الخلفاء ، تنصيباً وعزلاً واختياراً وقتلاً .وكان الخليفة يضطر إلى أن يأخذهم بنظر الإعتبار كل الإعتبار.

ــــــــــــــــــــ

(1) الكامل ج5 ص361.


صفحة (156)