ولا يخفانا قبل كل شيء ، أن هؤلاء الموالي لم يكونوا من الموالين للإمام ولا من قواعده الشعبية .بل كان أكثرهم الغالب ضده ومختلفين معه في المبدأ والمنهج ،ومن المسايرين لمبدأ الدولة ومناهجها ، والمنتفعين من  الخلافة العباسية . وكان جملة منهم قواداً متنفذين بيدهم إعلان الحرب والسلم مع أي شخص في أطراف الدولة .وكانوا يخوضون الحروب في الغالب في الجيش الممثل للدولة وهو المنتتصر في الحرب غالباً ، وبذلك  يغتنم الأتراك ومن إليهم أموالاً طائلة ، من  الثراء على حساب المظلومين المقهورين تحت الحروب.

ولم يكن الإمام (ع) ليوافق على تصرفاتهم التي لم تكن قائمة على شيء من تعاليم الدين والعدل الإسلامي الصحيح ، وبخاصة أنه يعلم موقفهم ضده وضد مواليه ، حتى كان الخليفة العباسي يستخدمهم في الكبس على دار الإمام وحبسه وإزعاجه كما عرفنا .

ومن هنا ينبثق موقف الإمام (ع) حيث كان يحاول ، بحسب الإمكان ، وببطء ،وحذر ، لإقامة الحجة عليهم وإفهامهم صدق مبدئه وعدالة قضيته .ولا يخفى ما في ذلك من الفائدة المباشرة للإمام وأصحابه ومواليه ،فإنه بنشاطه هذا يخفف من غلواء المندفع منهم ضده ويقرب المعتدل منهم إليه ، أو يجعل الفرد منهم يشك في حال نفسه ويعيد  النظر في سلوكه وشأنه.

ونستطيع أن نقسم موقف الإمام (ع) منهم إ لى نقطتين ، باعتبار موقفه من عامتهم تارة وموقفه من كبرائهم وقوادهم أخرى.

 

صفحة (157)

 

 

النقطة الاولى : في موقف الامام عليه السلام من جمهور الموالي وعامتهم في العاصمة  العباسية.

ومن المستطاع القول بأن جهوده المستمرة اثمرت بعض الشيء في تقريب بعضهم اليه وايمانهم بفضله وربما بامامته . وكانت جهود الإمام عليه السلام متواصلة في ذلك.

فمن ذلك : أنه مر به تركي : فكلمه بالتركية .فنزل عن فرسه فقبل حافر دابته .قال الراوي: فحلفت التركي أنه ما قال لك الرجل؟ قال: هذا كتابي باسم سميت به في صغري ببلاد الترك ، ما علمه أحد إلا الساعة (1)، ولعلك  لاحظت معي هذا التأثير الكبير الذي استطاع الإمام ان يصهر به التركي ، بإقامته هذه المعجزة البسيطة له. ومن ذلك : ما عن علي بن مهزيار – وهو من ثقات الائمة عليهم السلام ومعتمديهم – قال:  ارسلت إلى ابي الحسن الثالث -  يعني الامام الهادي (ع) – غلامي وكان صقلبياً. فرجع الغلام الي متعجباً . فقلت له : مالك   يا بني؟ فقال: و كيف لا اتعجب ؟ ما زال يكلمني بالصقلبية كانه واحد منا ،وانما اراد بهذا الكتمان عن القوم (2).

ولعلك لاحظت معي، ان الامام استطاع بتكلمه بتلك اللغة ان يحصل على فائدتين : احدهما : التاثير على الغلام واكتساب اعجابه وتعجبه من اطلاع الامام ومعرفته ، ان لم يعتبرها معجزة من معاجزه.

ــــــــــــــــــــ

(1) المناقب ج3 ص512

(2) المصدر و الصفحة


صفحة (
158)

 

ثانيهما: انه بهذا الاسلوب اخفة مضمون الكلام عمن لا يريد اطلاعه عليه من عيون الدولة. فتراه يتكلم مع الغلام بلغته مع كونه عالما بكونه يحسن اللغة.

النقطة الثانية : موقفه عليه السلام من كبرائهم وقوادهم .ولا يخفى ما في الموقف الايجابي منهم من الدقة والحرج ،فانهم بصفتهم ممثلين للجهاز الحاكم ، يكون الحذر منه حذرا منهم ايضا. وبخاصة ان اكثرهم ينهج نهج اعدائه والطعن في شأنه.

ومن ثم لا نجد موقفا منقولا في التاريخ للامام عليه السلام تجاههم. ما عدا موقفه من بغا الكبير ، الذي  كان يعتبره واحداً من اثنين او ثلاثة من القواد الاتراك ومتنفذيهم .فانه كان يملك تجاه الامام موقفاً معتدلاً ويشفق على قضيته بعض الشيء ، وربما انتج ذلك احياناً استعمال مركزه في رفع بعض الظلامات عنه وعن اصحابه.

يقول المسعودي (1) : وكان بغا كثير التعاطف والبر على الطالبين

 ثم ينقل  له  تعطفاً على بعض الطالبين ،حيث كان قد حاول قتل عامل المعتصم على الكوفة ،فأمر المعتصم بغا هذا بإلقائه إلى السباع ..فلم يلقه .

إلا أنه امره بان يجهد  الا  يظهر في ايام  المعتصم ..فوعده  بذلك.

وكان هذا النشاط البناء لهذا القائد  التركي ، في قضاء حولئج المؤمنين ، يرد مورد الرضا في نظر النبي (ص) .ومن هنا نسمع بغا

ــــــــــــــــــــ

1-المروج ج4 ص76


صفحة (
159)