|
||
|
الجهة الثاالثة : في تمحيص هذه الأخبار: توجد حول هذه الأخبار عدة ملاحظات: الملاحظة الأولى: أكثر الأخبار التي نقلناها عن السيوطي في النوع الثاني مروية عن غير المعصومين، كالزهري ودينار بن دينار. فلا تكون قابلة للإثبات التاريخي . الملاحظة الثانية: إن مادل ّمن الأخبار على ان المدة طويلة بشكل غير محدد ،إنما هو تحديد لمدة دولة المهدي ونظامه ،لا لعمر شخص المهدي (ع) وحيانه كقوله :إلى مدة قريبة وعاقبة طويلة. وكقوله: ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة .ومعه تخرج هذه المضامين عن نطاق ما نحتاجه الآن في الإستدلال . الملاحظة الثالثة: ما دل من هذا الأخبار على طول المدة بطريق إعجازي ،لايمكن الأخذ به لكونه مخالفاً لقانون المعجزات ، باعتبار أن توطيد العدل لا يتوقف على مثل هذه المعجزة . وقد نقلنا بهذا المضمون حديثين يدلان على أن المهدي (ع) يعيش سبع سنين تكون كسبعين سنة. ومعه فلا يمكن العمل بهذه الأخبار . ما لم يكن حمله على معنى رمزي سوف نشير إليه بعد ذلك. الملاحظة الرابعة: ما كان من الأخبار منفرداً في مضمونه ،ولا دليل على صحته ، ولا قرينة أخرى مؤيدة لمضمونه ... لابد من اعتباره غير قابل للإثبات التاريخي ، في حدود منهجنا من هذ الكتاب. يندرج في ذلك الخبر القائل بأنه (ع) يبقى في الحكم ثلاثمائة وتسع سنين. الملاحظة الخامسة : يصفو لنا بعد هذا التمحيص أقسام ثلاثة من الروايات: القسم الأول: أكثر روايات النوع الأول ، وهي التي تردد احتمال مدة حكم المهدي (ع) بين خمسة أعوام وسبعة وتسعة وعشرة . القسم الثاني: ما دل من الأخبارعلى بقاء حكم المهدي تسع عشرة سنة ،فإنها روايات ثلاث متعاضدة ، في بعضها : تسع عشرة سنة وأشهر. القسم الثالث: ما دل من الأخبار على بقائه عشرين سنة ،فإن فيه خبرين روتهما عدد من المصادر العامة كما سمعن. وإذا أمكن إرجاع التسعة عشر والعشرين إلى مدة تقريبية واحدة ،كما هو الأرجح، كان القسمان الأخيران قسماً واحداً تدل على صحته خمس روايات .
صفحة (437) ومعه يكون التحديد بين مدتين تقريبيتين ، إحداهما: بين الخمس والعشر .والأخرى بين التسع عشرة والعشرين. هذا ،ولا يبعد أن تكون المدة التقريبية الأولى أقرب إلى الصحة باعتبارها الأشهر بين الروايات .على أن الأمر ليس ذا اهمية بالغة ، بعد الإطلاع على المفهوم العام الذي عرفناه في الجهة الأولى ،والتي لا تعدو هذه الأخبار أن تكون مصاديق له ومن تطبيقاته . الجهة الرابعة : أنه بعد التمحيص الذي قلناه ،لاحاجة لنا إلى الأخذ بأقوال الأخرين ،في تمحيص هذه الأخبار، ولكن يحسن بنا في هذا الصدد أن نحمل فكرة عن الإتجاهات الرئيسية حول ذلك. وتتلخص في اتجاهين : الإتجاه الأول: إتجاه الأخذ بالجانب المشهور من الروايات ، وهو الذي رجحناه . وقد اختار السيد (الصدر) في كتاب المهدي(1) على ما في ظاهر عبارته ، بعد الذهاب إلى أن السبع سنين هو الأشهر. وهو الذي ذهبت إليه أيضاً : أبو الحسن الآبري ، حين قال: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (ص) بخروجه ،وأنه من أهل بيته ،وأنه يملك سبع سنين...الخ(2) . أقول: ولاشك أن الروايات الواردة حول قضية المهدي (ع) متواترة ، بل تفوق التواتر بكثير ... حتى أن أكثر من(حقل) من حقولها يمكن أن يكون متواتراً بحياله ،إلا أن أخبار بقائه في الحكم سبع سنين بالتعيين لاتصل إلى حد التواتر، على أنها معارضة بروايات عديدة تعطي أرقاماً أخرى غير السبع ... كما سمعنا . وهذا الإتجاه هو الذي اختاره ابن عربي في الفتوحات(3) حيث قال : أعلم أيدنا الله أن لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً ... إلى أن قال: يعيش خمساً أو سبعاً أو تسع، يقفو أثر رسول الله (ص) لايخطىء ... الخ كلامه.
(1) ص 234. (2) أنظر الصواعق المحرقة لأبن حجر ص99. (3) ص327 ج3.
الإتجاه الثاني: قول من يذهب إلى قبول كل الروايات ، مع الإلتزام بأنها تعرب عن مراحل متعددة من حياة المهدي وحكمه بعد ظهوره. وهذا ما ذهب إليه جماعة منهم : السفاريني في لوائح الأنوار البهية ، حيث يقول(1): ويمكن الجمع – على تقدير صحة الكل – بأن ملكه متفاوت الظهور والقوة ، فيحمل الأكثر باعتبار جميع مدة الملك ، منذ البيعة، والأقل على غاية الظهور ، والأوسط على الأوسط . أقول: وهذا يعني أن المهدي (ع) يبقى فاشلاً سنوات طويلة .فإننا لو عطفنا رواية الخمس سنوات على رواية الأربعين عاماً ... أنتج أن المهدي يعيش خمساً وثلاثين عاماً من الفشل. وأما لو أخذنا برواية الثلاثمائة والتسع سنين ،كانت مدة الفشل أكبر أن تقاس بمدة الحكم والسيطرة ،وهذا لامعنى له تماماً في المهدي الموعود المطبق للغرض إلا على من خلق البشرية . ونقله في الإشاعة(2) عن ابن حجر في القول المختصر. وذكر تأييد ذلك بعدة أمور نذكر منها ثلاثة : الأمرالأول: أن اللائق بكرم الله تعالى ان يكون مدة العدل ، قدر ما ينسون فيه الظلم والفتن ،والسبع والتسع أقل من ذلك. الأمر الثاني : أنه (ع) يفتح الدنيا كلها ، كما فتحها ذو القرنين وسليمان ،ويدخل جميع الآفاق ،كمافي بعض الروايات ،ويبني المساجد في سائر البلدان ،ويجلي بيت المقدس ،ولا شك أن مدة التسع فما دونها ،لايمكن أن يساح فيها ربع أو خمس المعمورة فضلاً عن الجهاد وتجهيز العساكر وترتيب الجيوش وبناء المساجد وغيرها. الأمر الثالث: أنه ورد أن الأعمار تطول في زمنه ،كما في سيرته ،وطولها فيه مستلزم لطوله .وإلا لا يكون طولها في زمنه.
(1) ج2 ص72 (2) ص105 وما بعدها .
ويحسن بنا أن نناقش هذه الأمور الثلاثة مختصراً . أما الأمر الأول : فهو صحيح والتفات لطيف ، غير انه لا يعود إلى شخص المهدي (ع) بل إلى بقاء نظامه ودولته .وسيأتي في الباب التالي أن مجرد نسيان الأمة للظلم والجور غير كاف في الإيمان بطول مدة الدولة المهدوية ، وإن كان في نفسه أمراً صحيحاً ، بل هناك فكرة نظرية سنعرضها بعد ذلك تقتضي الإلتزام بطولة مدة هذه الدولة أكثر من ذلك بكثير. وأما الأمر الثاني: فقد عرفنا فيما سبق أنه منطقي جداً بالنسبة إلى تصورات الحرب بالأسلوب القديم ، وليس منطقياً أصلاً من خلال تصورات الحرب الحديثة ،وضمانات انتصار المهدي (ع). وينبغي أن نلتفت إلى أن المهدي سيفتح الدنيا أكثر مما فتحها ذو القرنين وسليمان .فإن ملك ذي القرنين يمثل(شريطاً) على الأرض يبدأ باليونان وينتهي بجنوب شرق آسيا .وأما ملك سليمان فهو لا يعدو فلسطين نفسها، فإنه وحد بين دولتي اليهود: إسرائيل ويهودا ،وحكمهما بشريعة إلهية صحيحة ، ولم يخرج ملكه عن هذا النطاق .وأما المهدي (ع) فقد تم البرهان على أنه يحكم الدنيا كلها ، وتدخل البشرية كلها تحت سيطرته. وأما الأمرالثالث: فهو أيضاً راجع إلى زمن نظامه ودولته لا إلى زمن حياته الشخصية ،فإن طول الأعمار ناتج عن الراحة والإطمئنان النفسي الناتج عن جو العدل العالمي والأخوة البشرية الكاملة. وقد عرفنا وسنعرف أن النظام العادل غير منحصر في زمن المهدي (ع) بل سيبقى بعده إلى نهاية البشرية . إذن ، فهذه الأمور لا تصلح دليل على طول عمر المهدي (ع) بشخصه بعد أن عرفنا ان مهمته الشخصية تاسيس المجتمع البشري القابل للبقاء والتكامل إلى البشرية ، وهذا ما يحدث ، ضمن امكانياته ، في زمن قصير، يمكن أن يكون خمس أو سبع أو تسع سنين .
|
|