السؤال الأول :
إذا كان المهدي (ع) ظاهراً بشخصه للناس ، وهم لا يعرفونه ، فكيف لا يلتفتون إليه
طوال السنين ، وهم يرونه باقياً لا يموت ، على حيث يموت غيره من الناس .
وفي هذا السؤال غفلة عن الأسلوب الذي يمكن للمهدي (ع) أن يتخذه تلافياً لهذا
المحذور . فإنه لو عاش في مدينة واحدة حقبة طويلة من الزمن لانكشف أمره لا محالة
. ولكنه – بطبيعة الحال – لا يعمل ذلك ، بل يقضي في كل مدينة أو منطقة ، عدداً من
السنين تكون كافية لبقاء غفلة الناس عن حقيقته .
فلو كان يقضي في كل مدينة من العالم الإسلامي خمسين عاماً ، لكان الآن قد أكمل
سكنى اثنتين وعشرين مدينة . وتوجد في العالم الإسلامي أضعاف ذلك من المدن التي
يمكن للمهدي (ع) أن يسكنها تباعاً . كما يمكن أن يعود إلى نفس المدينة التي سكن
بها ، بعد مضي جيلين أو أكثر وانقراض من كان يعرف شخصه من الناس .
ومن البسيط جداً ألا ينتبه الناس إلى عمره خلال السنوات التي يقضيها في بلدتهم .
فإن هناك نوعاً من الناس ، نصادف منهم العدد غير القليل ، تكون سحنتهم ثابتة
التقاطيع على مر السنين . فلو فرضنا – في الأطروحة – كون المهدي (ع) على هذا
الغرار ، لم يكن ليثير العجب بين الناس ، بعد أن يكونوا قد شاهدوا عدداً غير قليل
من هذا القبيل .
ثم حين يمر الزمان الطويل ، الذي يكون وجود المهدي (ع) فيه ملفتاً للنظر ومثيراً
للانتباه ، يكون المهدي (ع) قد غادر هذه المدينة بطريق اعتيادي جداً إلى مدينة
أخرى ليسكن فيها حقبة من السنين . وهكذا .
السؤال الثاني :
أنه كيف تتم المقابلة مع الإمام (ع) ، على الشكل الوارد في أخبار المقابلة ؟ وكيف
يختفي الإمام بعدها ؟
أما حدوث المقابلة ، ففي غاية البساطة ، فإنه عليه السلام إذ يى المصلحة في
مقابلة شخص ، فإنه يكشف له عن حقيقته إما بالصراحة ، أو بالدلائل التي تدل عليه
في النتيجة ، لكي يعرف الفرد أن الذي رآه هو المهدي (ع) ولو بعد حين .
صفحة (37)
والمهدي (ع) يحتاج في إثبات حقيقته لأي فرد إلى دليل ، لجهل الناس جهلاً مطلقاً
بذلك . وهو يعبّر عن معجزة يقيمها الإمام (ع) في سبيل ذلك ، وهذه المعجزه تقوم في
طريق إثبات الحجة على المكلفين ، فتكون ممكنة وصحيحة ، وهي طريق منحصر لإثبات ذلك
، كما هو واضح ، إذ بدونها يحتمل أن لا يكون هو المهدي (ع) على أي حال .
والغالب في أخبار المشاهدة أن الفرد لا ينتبه إلى حقيقة المهدي (ع) إلا بعد فراقه
، ومضي شيء من الزمان . لأن الفرد لا يستطيع أن يشخّص أن ما قام به المهدي (ع) أو
ما قاله هو من المعجزات الخاصة به ، إلا بعد مفارقته بمدة . وبذلك يضمن المهدي
(ع) خلاصه من الاطلاع الصريح المباشر على حقيقته في أثناء المقابلة ، فتندفع عنه
عدة مضاعفات محتملة .
وأما أن كيف يختفي المهدي (ع) بعد انتهاء المقابلة ، فذلك أطروحتان ، من الممكن
له تطبيق أي منهما .
الأولى : الاختفاء الشخصي الإعجازي . فيما إذا انحصر طريق التخلص به ، فيكون
مطابقاً مع قانون المعجزات .
الثانية : وهي المتحققة على الأغلب في ظروف اللقاء المنقولة لنا في أخبار
المشاهدة ، سواء ما وقع منها في عصر الغيبة الصغرى أو ما يقع في الغيبة الكبرى .
وهو الاختفاء بطريق طبيعي ، لعدم انحصار التخلص بالمعجزة. بل كان المهدي (ع)
يزجي هذا الأمر بنحو عادي جداً غير ملفت للنظر . كما لو أصبح رفيقاً في السفر مع
بعض الأشخاص ثم يفارقه(1) أو يبقى المهدي (ع) في مكانه ويسافر عنه
الشخص الآخر(2) . أو أن المهدي يوصل شخصاً إلى مأمنه من متاهة وقع
فيها ثم يرجع . ولايلتفت ذلك الشخص إلى حقيقة منقذه إلا بعد ذهابه(3)
. ويكون
لغفلته هذه الأثر الكبير في سهولة وسرعة اختفاء المهدي عنه . ومع إمكان الاختفاء
الطبيعي ، يكون الاختفاء الإعجازي بلا موضوع .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 181 .
(2) انظر النجم الثاقب ، ص 306 .
(3) انظر المصدر ، ص 341 وغيرها .
صفحة (38)
ويستطيع المهدي (ع) أن يخطط بمقابلته نحواً من الأسلوب ، ينتج غفلة الرائي عن
كونه هو المهدي (ع) في أثناء المقابلة . وإنما يتوصل إلى الالتفات إلى ذلك بعدها
. ويقيم دلائله بحيث لا تكون ملفته للنظر أثناء وقوعها ، وإنما يحتاج الالتفاف
إليها إلى شيء من الحساب والتفكير ، لا يتوفر – عادة – إلى بعد اختفاء المهدي .
وهذا هو الديدن الذي يطبقه الإمام (ع) في أغلب المقابلات .
وهذا التخطيط المسبق الذي يقوم به المهدي (ع) يغنيه عن التفكير في طريقة الاختفاء
عند المقابلة . وإن كان لا يعدم – بغض النظر عن الاختفاء الإعجازي – مثل هذه
الطريقة . ولئن كنا نرى في كل زمانأشخاصاً عارفين بطرق الاختفاء السريع ، لمختلف
الأغراض ، كالبحث عن المجرمين أو الهرب من العقاب . أو عن مقابلة الدائن ، أو غير
ذلك ... فكيف بالإمام المهدي (ع) صاحب القابليات غير المحدودة الذي يستطيع بها أن
يحكم العالم كله ، والعد لذلك من الله تعالى إعداداً خاصاً .
السؤال الثالث :
إن من يرى المهدي (ع) ، فسوف يعرفه بشخصه ، وسيعرفه كلما رآه . وهو ما يؤدي
بالمهدي (ع) تدريجاً إلى انكشاف أمره وانتقاء غيبته المتمثلة بخفاء عنوانه والجهل
بحقيقته . إذ من المحتمل للرائي أن يخبر الآخرين بذلك، فيعرفون حقيقته وينكشف
أمره .
ويمكن الانطلاق إلى الجواب على مستويات ثلاثة :
المستوى الأول :
إن الفرد الذي يحظى بمقابلة المهدي (ع) لن يكون
إلا من خاصة المؤمنين المتكاملين
في الإخلاص – على الأغلب – ومثل هذا الفرد يكون مأموناً على إمامه (ع) من النقل
إلى الآخرين . فإن الناس لا يعلمون من هذا الشخص أنه رأى المهدي وعرفه ، وله
الحرية في أن يقول ذلك أو أن يستره ، أو أن يبدي بعض الحادث ويخفي البعض الآخر ،
بالمقدار الذي يحقق به مصلحة الغيبة والستر على
الإمام الغائب عليه السلام .
صفحة (39)
المستوى الثاني :
إذا لم يكن الرائي مأموناً ، فيما إذا اقتضت المصلحة مقابلته ، فقد يكون بعيد
المزار جداً ، ويكون المهدي (ع) عالماً سلفاً بأنه لن يصادفه في مدينته أو في
الأماكن التي يطرقها طيلة حياته . ومعه فيكون الخطر المشار إليه في السؤال غير ذي
موضوع .
المستوى الثالث :
إذا كان الرائي قريباً في مكانه من المنطق التي يسكنها المهدي (ع) ولم يكن
مأموناً ، فإنه يحتاج المهدي إلى تخطيط معين لتفادي الخطر المذكور .
ولعل أوضح تخطيط وأقربه إلى الأذهانهو أن يغير زيه الذي يعيش به عادة بين الناس
ليقابل الفرد المطلوب بزي جديد . ومن هنا نرى الإمام المهدي (ع) – على ما دلت
عليه الروايات – يقابل الناس بأزياء مختلفة . ففي عدد من المرات يكون مرتدياً
عقالاً وراكباً جملاً أو فرساً . وفي مرة على شكل فلاح يحمل المنجل ، وأخرى على
شكل رجل من رجال الدين العلويين(1) . وهذا أحسن ضمان لعدم التفات
الناس إلى شخصيته المتمثلة بزيه العادي .
على أن المقابلات تقترن في جملة من الأحيان ، بأشكال من الضرورة والحرج عند الفرد
، وهي الضرورة التي يريد المهدي (ع) إزالتها ، على ما سنسمع ، ومثل هذا الفرد
يصعب عليه ، وهو في حالته تلك تمييز سحنة الإمام (ع) بشكل يستطيع أن يشخصه بعد
ذلك ، خاصة وهو في زيه التنكري .
وهناك أساليب أخرى ، يمكن اتخاذها في هذا الصدد ، لا ينبغي أن نطيل بها الحديث .
ولو فرض أنه احتاج الأمر وانحصر حفظ الإمام عليه السلام بالإعجاز بطريق الاختفاء
الشخصي ، لو قابله الفرد الرائي مرة ثانية ، لكان ذلك ضرورياً ومتعيناً . أو تكون
المعجزة على شكل نسيان الرائي لسحنة الإمام (ع) بعد المقابلة .
ــــــــــــــــــ
(1) راجع ذلك في النجم الثاقب في عدد من مواضيع الكتاب .
صفحة (40)
|