وهذا مطابق لما عرفناه من نتائج التخطيط الالهي ، ببقاء قلة من المخلصين الممحصين
المندفعين في طريق الحق . وأكثرية من المنحرفين والكافرين .ويكون لأولئك القلة
المناعة الكافية ضد التأثر بالأفكار المادية والشبهات المنحرفة . بل أن هذه
الشبهات لتزيدهم وعياً وإيماناً وإخلاصاً .
وهذا هو معنى ما ورد في بعض أخبار الدجال من منعه عن مكة والمدينة بواسطة ملك
بيده سيف مصلحت يصده عنها ، وأن على كل نقب ملائكة يحرسونها . فإن تشبيه العقيدة
الإسلامية بالملك ومناعتها بالسيف مما لا يخفي لطفه . وأما كون الملائكة على كل
نقب ، فهو يعني الإدراك الواعي للمؤمن بأن للاسلام حلاً لكل مشكلة وجواباً على كل
شبهة ، فلا يمكن لشبهات الآخرين أن تغزو فكره أوتؤثر على ذهنه .
والدجال طويل العمر ، باق من زمن النبي (ص) حين لم يؤمن برسالته من ذلك الحين ،
بل ادعى الرسالة دونه ، ولا زال على هذه الحالة إلى الآن .
فإن الدجال أو المادية ، تبدأ أسسها الأولى من زمن النبي (ص) حيث كان للمنافقين
أثرهم الكبير في ادكاء أوراها ورفع شأنها . فكانوا النواة الأولى التي حددت
تدريجاً سير التاريخ على شكله الحاضر ، بانحسار الإسلام عن وجه المجتمع في العالم
وسيطرة المادية والمصلحية عليه .
إذن فالمنافقون الذين لم يؤمنوا برسالة النبي (ص) ، أولئك الذين كان مسلك الدجال
والخداع مسلكهم إذ يظهرون غير ما يبطنون ، هم النواة الأولى للمادية المخادعة
التي تظهر غير ما تبطن ، وتبرقع قضايا بمفاهيم العدل والمساواة . فهذا هو الدجال
، بوجوده الطويل .
ومن هنا نفهم معنى ادعائه للرسالة ، فإن المادية كانت ولا زالت تؤمن بفرض ولايتها
على البشر ، غير أنها كانت في المجتمع النبوي ضعيفة التأثير جداً ، لا تستطيع
الارتباط بأي انسان . ولكن حين أُذن للدجال المادي بالخروج ، في عصر النهضة
الأوربية ، استطاعت المادية أن تفرض ولايتها وسلطتها على العالم .
صفحة ( 535 )
ومن هذا المنطلق نفهم بكل وضوح معنى أنه عند الدجال ماء ونار ، وماؤه في الحقيقة
هو النار ، وناره هو الماء الزلال . وقال النبي (ص) ـ في الحديث ـ : " فمن أدرك
ذلك فليقع في الذي يراه ناراً فأنه ماء عذب طيب " .
فإن ماء الدجال هو المغريات والمصالح الشخصية التي تتضمنها الحضارة المادية لمن
تابعها وتعاون معها . وناره عبارة عن المصاعب والمتاعب والتضحيات الجسام التي
يعانيها الفرد المؤمن الواقف بوجه تيار المادية الجارف . وتلك المصالح هي النار
أو الظلم الحقيقي ، وهذه المصاعب هي الماء العذب أو العدل الحقيقي .
ومن الطبيعي أن النبي (ص) بصفته الداعية الأكبر للايمان الالهي ، ينصح المسلم بأن
لا ينخدع بماء الدجال وبهارج الحضارة ومزالق المادية، وأن يلقي بنفسه فيما يراه
ناراً ومصاعب ، فإنه ينال بذلك طريق الحق والعدل .
ونستطيع في هذا الصدد أن نفهم : أن نفس سياق الحديث ولهجته دال على ذلك . فإن
قوله : " فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق ، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء
بارد عذب " . يكاد يكون أيضاً واضحاً في أنه ليس المراد به الماء والنار على وجه
الحقيقة ، بل هو ماء ونار على وجه الرمز . وإلا لزمن نسبة المعجزات إلى المبطلين
، وقد برهنا على فساده .
ومن طريف ما نستطيع أن نلاحظه في المقام : أن النبي (ص) لم يقل في الخبر : أن
الناس جميعاً حين يقعون في الماء فإنهم يجدونه ناراً أو حين يقعون في النار ،
يجدونها ماء . بل يمكن أن نفهم أن بعض الناس وهم المؤمنون خاصة هم الذين يجدون
ذلك . وإلا فإن أكثر الناس حين يقعون في ماء الدجال أو بهارج المادية لا يجدون
إلا اللذة وتوفير المصلحة ، كما أنهم حين يقعون في المصاعب والمتاعب لا يجدون إلا
الضيق والكمد .
والدجال أعور ، نعم بكل تأكيد ، من حيث أن الحضارة المادية تنظر إلى الكون بعين
واحدة ، تنظر إلى مادته دون الروح والخلق الرفيع والمثل العليا . ومن يكون الأعور
إلا غير المدرك للحقائق ربا صالحاً للولاية على البشرية ... وإنما تكون الولاية
خاصة بمن ينظر إلى الكون بعينين سليمتين ، بما فيه من مادة وروح ويعطي كلل زاوية
حقها الأصيل " وإن ربكم ليس بأعور " .
صفحة (536)
والدجال كافر ، لأنه مادي ومن أعداء الإسلام وأبعدهم عن الحق
والصواب : " مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " فإن هذه
الكتابة ليست من جنس الكتابة ! وإنما هي تعبر عن معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين
ونفاقهم ، وهذا لا يتوقف على كون الإنسان قارئاً وكاتباً أو لم يكن . ومن المعلوم
اختصاص هذه المعرفة بالمؤمنين " يقرؤه كل مؤمن " لأنهم يعرفون الميزان الحقيقي
العادل لتقييم الناس . وأما المنحرفون ، فهم لا يقرأون هذه الكتابة ، وإن كانوا
على درجة كبيرة من الثقافة . لأنهم مماثلون لغيرهم في الكفر والانحراف . ومن
الطبيعي أن لا يرى الفرد أخاه في العقيدة كافراً .
ومن أجل هذا كله حذر النبي (ص) منه أمته واستعاذ من فتنته ، لأجل أن يأخذ
المسلمون حذرهم على مدى التاريخ من النفاق والانحراف والمادية. بل قد يأخذ
المسلمون حذرهم على مدى التاريخ من النفاق والانحراف والمادية . بل قد حذر كل
الأنبياء أممهم من فتنة الدجال . لما سبق أن فهمنا أن المادية السابقة على الظهور
هي من أعقد وأعمق الماديات على مدى التاريخ البشري " ما بين خلق آدم إلى يوم
القيامة " وتشكل خطراً حقيقياً على كل الدعوات المخلصة للأنبياء أجمعين .
وهو بالرغم من ذلك كله ـ " أهون على الله من ذلك " باعتباره حقيراً أمام الحق
والعدل . مهما كانت هيمنته الدنيوية وسعة سلطته . وليس وجوده قدراً قهرياً أو
أثراً تكوينياً اضطرارياً ، وإنما وجد من أجل التمحيص والاخبتار، بالتخطيط
الالهي العام ، وسوف يزول ، عندما يقتضي هذا التخطيط زواله ، عند الظهور ، وتطبيق
يوم العدل الموعود.
ومن هنا نفهم أنه لا تعارض بين الخبر الدال على أن معه جبل خبز ونهر ماء ، والخبر
الدال على أنه أهون على الله من ذلك . فإن هو أنه عند الله لا ينافي حصوله على
السلطة والإغراء ، أخذاً بقانون التمحيص والامهال الالهي طبقاً لقوله تعالى : ﴿
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، أتاها أمرنا
ليلاً أو نهاراً ؛ فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم
يتفكرون﴾
(1) . فهذه هي الفكرة العامة الرمزية عن الدجال .
وأما السفياني ، فهو يمثل خط الانحراف في داخل المعسكر الإسلامي ، أو الفكرة
الإسلامية العامة . يندرج في ذلك كل الحركات والعقائد الخاطئة التي تدعي الانتساب
إلى الإسلام ، مما كان أو يكون إلى يوم الظهور الموعود .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)
يونس 10 /
24 .
صفحة ( 537 )
ومن هنا اعتبر أبو طاهر القرمطلي ، في بعض الروايات : السفياني الأول ، والسفياني
الموعود هو الثاني . مع أن هذا القرمطي لا ينتسب إلى أبي سفيان بحال . وإنما صفته
الأساسية هو أنه قائد الحركة الكبيرة من حركات الانحراف في المجتمع الإسلامي .
إذن فهو ينتسب إلى أبي سفيان عقيدة وإن لم ينتسب نسباً .
وفي الإمكان معرفة اتجاهه الكفري والعسكري ، مستنتجاً مما نسب إليه في الأخبار من
الأفعال والمشاغبات في المجتمع المسلم . يكون آخرها إرساله الجيش ضد الجماعة
الممثلين للحق المستجيرين بالبيت الحرام في مكة . وحينما يصل جيشه إلى البيداء
يخسف بهم أجمعين ، لا ينجو منهم إلا المخبر .... حفظاً لحرمة البيت الحرام من
ناحةي ، وحفظاً للجماعة الممحصين الذي يجب أن يقوموا بمهام اليوم الموعود . ولعل
المهدي (ع) نفسه يكون من بينهم يومئذ .
وهذه الحركة بالذات تقوم بها بعض السلطات المنحرفة في المجتمع المسلم ، فهي أوضح
أشكال الفكرة العامة للسفياني ، بالشكل الذي فهمناها .
وخروج السفياني من الوادي اليابس ، محمول على المستوى الفكري الذي يتصف به ، فإنه
ينطلق فكرياً عن أيدولوجية ممحلة وضحلة وجافة . بمعنى أنها تتجافى الحق وتقوم على
الفهم الخاطئ .
وعلى أي حال ، فكل من الدجال والسفياني ، طبقاً لهذا الفهم ، مما قد حدث في
التاريخ فعلاً ، وليس أمراً منتظراً . نعم ، لم تصل حركة السفياني إلىنتائجه
النهائية التي هي الخسف .
بقي علينا الحديث عن الفهم الرمزي ليأجوج ومأجود . وهذا ما أجلناه ، كما قلنا ،
إلى التاريخ القادم ، لابتنائه على مقدمات لم تتوفر على عرضها في هذا التاريخ .
*****
صفحة (538)
المستوى الثاني :
ما يكون على مستوى مكافحة الانحراف وجهاده ومحاوله تقويمه .
يندرج في ذلك ما حدث في التاريخ ، كالثورات التي كانت تحصل في زمن
الأمويين والعباسيين . وهي تعرف بمراجعة التاريخ العام ولسنا الآن بصدد تحليلها .
وإنما المهم محاولة فهم ما لم يحدث من ذلك . وهو أمران ، بحسب ما حددته الروايات
:
الأمر الأول
خروج اليماني الذي رايته ودعوته قائمة على الحق ، إن ثبت ذلك بالتشدد السندي الذي
تسير عليه .
وحينئذ ، فإما أن نحمله على المعنى النوعي الرمزي أو نحمله على المعنى الشخصي
الصريح .
فإن حملناه على المعنى الشخصي ، بمعنى وجود شخص معين مناصر للحق متصف بهذه الصفات
... فهو مما لم يعهد حدوثه في التاريخ ، فيكون منتظراً .
وهذا هو الأقرب إلى ظاهر التعبير ، وخاصة مع اتصافه بكونه يمنياً .
وإن حملناه على المعنى النوعي الرمزي الدال على وجود حركات وثورات محقة في عصر
الفتن والانحراف ، تدعو إلى الحق وتلتزم به ، وهذا مما حدث في التاريخ بكثرة ...
منها الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمد (ص) في عصر الخلافة .
ولعله يوجد في مستقبل الزمان حركات أخرى بشكل وآخر ، تحدث فتزعزع الانحراف ،
ونثبت معنى البطولة والصمود في سبيل الحق .
وهذا يندرج في الحقيقة ، تحت معنى التمحيص الاختياري الذي سبق أن عرفناه ، وهو
المتضمن للاعلاء الإرادي إلى درجة الاخلاص والصبر في نفس الفرد والمجتمع . والثأر
للحق دائماً يكون على هذا المستوى الرفيع .
الأمر الثاني :
مقتل النفس الزكية ، فأنه أحد الثائرين في وجه الظلم والانحراف والطغيان ... ولا
تكون ثورته ناجحة ، بل يكون ذلك سبباً لمقلته . وقد جعل مقتله علامة للظهور
باعتبار أهميته وعمق فكرته .
سواء كان مما حدث فعلاً ، كما رجحناه ، أو مما لم يحدث ، كما هو مقتضى الفهم
الكلاسيكي الذي تعضده بعض الروايات التي أخرجها في البحار ، كما سمعنا .
صفحة (539)
فإن كان مما حدث فيما سبق ، فقد عرفنا أنه هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن
بن علي بن أبي طالب . وأنه أحد الثائرين بوجه الدولة العباسية في عصورها الأولى .
وإن كان مما لم يحدث ، فيكفينا مجرد التنبؤ بمقتله وأهميته لنعرف أنه مقتول بين
الظالمين المنحرفين لا محالة . على أن مكان مقتله ، وهو ما بين الركن والمقام
يدلنا على أهمية مقتله وخطورته بنظر قاتليه والمعتدين عليه ، حيث لا يكون
بإمكانهم القبض عليه أو تأجيله أو اخراجه من المسجد الحرام ، بل يكون من مصلحتهم
استعجال قتله هناك ،وهتك الحركة الإسلامية الكبرى لذلك المسجد المقدس . وما ذلك
إلأ لعمق دعوته وصراحتها في الحق ، ومجافاتها لمسالك الظلم والانحراف .
وسوف نفصل الكلام ، طبقاً لهذا الفهم ، في التاريخ القادم ، وسنعرف أنه يصبح رسول
المهدي (ع) إلى المسلمين , وأنه يقتل قبل ظهوره بقليل .
المستوى الثالث :
ما كان على مستوى التنبيه الالهي الإعجازي على خطورة الانحراف وقرب الظهور .
وأهم ما يندرج في ذلك : الصحية والنداء باسم المهدي (ع) وكسوف الشمس في وسط الشهر
وخسوف القمر في آخره . وهي وإن كان بالإمكان حملها على الرمز ، إلا أنه بعيد .
والمعتقد أن الدلالة عليها صريحة غير رمزية . وقد سبق أن عرفنا مالها من التأثير
في تنبيه المؤمنين الممحصين على قرب الظهور ، ولزوم المبادرة إلى نصرة الإمام
المهيد عليه السلام .
وأما المعجزات الأخرى المروية ، فليست على هذا المستوى الثالث : أما النار التي
تخرج من الحجاز تضيء لها أعناق الابل في بصرى ، فقد حملناها على ظهور المهدي (ع)
نفسه . ومعه لا معنى لادراجها في العلامات .
وأما النار التي تخرج من قعر عدن أومن اليمن ، تسوق الناس إلى المحشر ، فهي على
تقدير ثبوتها بعد التشدد السندي ، من علامات القيامة المتأخرة عن الظهور ، لا من
علامات الظهور نفسه . وكذلك خروج الشمس من مغربها ، إلا إذا حملنا ذلك على الرمز
إلى ظهور المهدي (ع) نفسه ، كما سبق أن حاولنا أن نفهمه . وعلى كلا التقديرين ،
فهو ليس من علامات الظهور .
صفحة (540)
وأما انحسار الفرات عن كنز من ذهب ، فقد تكلمنا عنه ، وعرفنا كونه أمراً طبيعياً
غير اعجازي .
وأما رجوع الأموات إلى الدنيا ووقوع المسخ ، وظهور وجه وصدر في الشمس (1)
وغيرها مما ذكرناه أو لم نذكره، فلم يثبت شيء منها بالتشدد السندي ، ومعه لا حاجة
إلى محاولة حملها على المعنى الرمزي ، وإن كان ذلك في بعضها ممكناً .
فهذا هو الكلام ، في الناحية الثانية ، في تأسيس الفهم العام لعلامات الظهور . وقد
علمنا بكل تفصيل ووضوح مقدار ارتباطها بعصر الفتن والانحراف ، وبالتالي بقانون
التمحيص الالهي .
وبهذا ينتهي الكلام في الجهة الخامسة في تعداد مقررات العلامات ، ومحاولة فهمها
فهماً منظماً شاملاً .
وبه ينتهي الكلام في الفصل الثاني في علامات الظهور .
وهو نهاية الحديث في القسم الثالث من هذا التاريخ .
وهذا غاية مقصودنا من بيان تاريخ الغيبة الكبرى . تم على يد مؤلفه المحتاج إلى رحمة
ربه الكريم محمد بن محمد صادق بن محمد المهدي بن إسماعيل الصدر الموسوي .
والحمد الله أولاً وأخيراً وصلى الله على سيدنا ومولانا سيد الأنبياء والمرسلين
وخاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين . وعجل الله فرج مهديّهم بقية الله في أرضه
أمل المظلومين ونقمة الله على الظالمين والمطبق لشريعة سيد المرسلين. وجعلنا من
المخلصين المعدَّين لنصرته في اليوم الموعود . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين .
8 رمضان
1390
9 تشرين الأول 1970
محمد الصدر
ــــــــــــــــــــــ
(1)
الإرشاد , ص
337 .
صفحة ( 541)