وأما المسلك الثاني : فهو باطل أيضاً ، باعتباره منطلقاً من الاعتقاد بتشويش هذه
الروايات وغرابة مضامينها ، ونحن بعد أن نثبت تنظيمها وصحة مداليلها ، لا يكون
لها المسلك أي موجب . مضافاً إلى أن كثرة هذه الروايات إلى حد تفوق حد التواتر ،
يمنع من إنكارها جملة وتفصيلاً كما هو واضح .
نعم ، يبقى البحث عن الأمر المرموز إليه بهذا الرمز أو ذاك . ما هو ؟ ويكف نعرفه
؟ فهذا ما سنبحثه بعد قليل .
المنشأ الثاني :
استعمال مفاهيم معينة ذات مداليل ومصاديق خاصة ، بحسب ما يعيشه الناس في عصر صدور
الرواية . ومن المؤكد أنهم لم يفهموا منه إلا ذلك . إلا أن النبي (ص) أو الإمام
(ع) أراد منها مصاديق أخرى ، هي المصاديق والتطبيقات التي تكون لهذا المفهوم في
عصر حدوث الحادثة التي يخبر عنها .
مثال ذلك : قولهم عليهم السلام : إن المهدي (ع) يقوم بالسيف . والمراد به قوة
السلاح المناسب لعصر الظهور . على حين لم يفهم المعاصرون للنبي أو الإمام إلا
السيف نفسه .. ولعلهم أضافوا إليه في مخيلتهم الدرع والرمح أيضاً ..!
ومثاله الآخر : إخبارهم عن جيش يخسف به في البيداء ، فإنه من المؤكد أنه لم يفهم
الناس ، حين سماعهم هذا الخبر لأول وهلة ، إلا كونه جيشاً محارباً بالسيف على
الغرار القديم . مع أن مثل هذا التخيل مما لا موجب له ، بل إن الجيش محارب بسلاح
عصره لا محالة .
المنشأ الثالث :
الحذف وعدم التعرض إلى التاريخ المحدد تارة وإلى المكان أخرى وإلى أسماء الأشخاص
ثالثة .. وإلى أهداف ومناهج وإيديولوجيات الحركات الموعودة في التاريخ ، رابعة ..
وغير ذلك من الأمور . مما يجعل العلم المفصل بالحوادث متعذراً إلى حد كبير .
مثاله : التعبير بالنفس الزكية وبالسفياني ، وعدم التعرض إلى أسمائهم صراحة .
والأخبار بخروج رايات سود من خراسان ، أو بوجود طائفتين متحاربتين ودعوتهما واحدة
.. مع عدم التصريح بأن دعوة هؤلاء الناس قائمة على حق أو على باطل .. إلى غير ذلك
من الأمثلة .
صفحة (185)
المنشأ الرابع :
سبب نفسي من المطلعين على هذه الروايات من الباحثين ، يحمل الفرد على عدم الإذعان
والتصديق أو صعوبته بتحقق الحادثة أو صدق الرواية ، وإن توفرت فيها شرائط السند ،
وزالت المناشئ الثلاثة الأولى لغموض الدلالة .
وهذا الاتجاه النفسي له عدة مناشئ .. أهمها ما يلي :
أولاً : احتمال الحذف أو التغيير خلال النقل . فإن اختلال الحرف الواحد بل النقطة
الواحدة ،فضلاً عن الكلمة والأكثر، مما يخل بالمقصود ويغير المعنى .. وبخاصة في
مثل هذا الحقل من المعرفة الإنسانية .
ثانياً : استبعاد وقوع كل الحوادث المخبر بها في مجموع الروايات . فإن كثرة هذه
الروايات ، كما تجعلها متواترة نعلم بصدق عدد مهم منها .. كذلك تجعلنا نعلم أو
نظن – على الأقل – بكذب عدد آخر منها . ومن المعلوم أننا لا نستطيع أن نشخص
المعلوم الصدق من معلوم الكذب . فإن كل رواية لو أخذناها لرأيناها محتملة الصدق
والكذب .
ثالثاً : عدم التأكد من مطابقة عدد من المعجزات المروية في هذه الروايات ، مع
قانون المعجزات الذي ذكرناه .. أي عدم التأكد من أن هذه المعجزات واقعة في طريق
إقامة الحجة . ومن المعلوم أنها لو لم تكن واقعة في هذا الطريق، فمقتضى القاعدة
نفيها وتكذيب راويها .
وعلى أي حال فهذه هي المناشئ المهمة للغموض والتشكيك في دلالة هذه الروايات .
وهناك مناشئ أخرى تكون في مورد دون مورد ... لا حاجة إلى التعرض لها .
منهج التمحيص الدلالي :
بعد أن عرنا هذه المناشئ الرئيسية للغموض والإبهام في روايات التنبؤ عن المستقبل
، لا بد لنا أن نعرض منهجاً يذللها وإسلوباً من الفهم يبسط محتواها ويربط بين
أجزائها ، لكي نتلافى تلك الصعوبات إلى أكبر حد ممكن .
ونبدأ أولاً بمناقشة المنشأ الرابع ، لكونه خاصاً بالسامع ، أي بأسلوب وصول
صفحة (186)
|