في تمحيص الأخبار التي نريد الاستشهاد بها في هذا القسم ، وتمييزها عما سواها من
حيث المورد والمفهوم ، وإعطاء القواعد العامة في فهمها . وذلك قبل الدخول في سر
تفاصيلها في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى
وينبغي أن يقع الكلام حول ذلك في عدة جهات :
الجهة الأولى :
في تمحيص هذه الأخبار ، وتشخيص حاجتنا في الاستدلال بها .
فإننا إذ نريد أن نعرف المستوى الديني ، لأي مجتمع ، في أي عصر ، نرجع – عادة –
إلى تاريخ ذلك العصر لاستعراض ما فيه من حوادث وآثار تدل على ما كان عليه المجتمع
من مستوى ديني وشعور بالمسؤولية الدينية . وهذا طريق صحيح ، لو استطاع التاريخ أن
يسعفنا بما نحتاجه من حقائق ومستمسكات .
ولكن ما نعرفه – عادة – من تأريخ ، يتصف بالنقص – حتماً – بما لا يقل عن ثلاث
جهات :
الجهة الأولى :
إسقاطه لبعض الحوادث التاريخية ، وعدم التعرض لها ، بأي دافع من الدوافع ...
وتاريخنا الإسلامي مليء بمثل هذه الفجوات .
الجهة الثانية :
عدم الموضوعية في شرح الحادثة . ووجود الاحتمال على أقل تقدير – في أن
يكون المؤرخ قد غير منها شيئاً لكونه يميل عقائدياً أو عاطفياً مع أحد الأشخاص
التاريخيين دون الآخر .
صفحة (175)
الجهة الثالثة :
عدم التعرض لحوادث المستقبل . وهذا ضروري الوقوع في كل تاريخ ، لأن المستقبل
مجهول ، إلا بنحو الحدس أو علم الغيب .
أما الجهتين الأولى والثانية ، فيمكن دفع تأثيرهما والحد من ضررهما ، إلى حد كبير
، لدى المقارنة بين مصادر التواريخ وأقوال المؤرخين ، حتى يحصل للفرد البحث وثوق
وقناعة بحصول الحادثة أو عدم حصولها . وخاصة بعد استيعاب سائر وجهات نظر المؤرخين
ومذاهبهم .
وأما الجهة الثالثة : فيستحيل – عادة – مَلْؤُهَا في التاريخ الاعتيادي للبشر
أياً كانوا ... فيبقى المستقبل المجهول ، فجوة تاريخية شاغرة أمام الناظر يحار في
تشخيصها وترتيبها .
وهنا ينفتح وجه الحاجة إلى الروايات التي نحن بصددها ، فإنها تتنبأ عن حوادث
المستقبل مروية عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وعن خلفائه المعصومين
عليهم السلام ... بطرق متواترة لا يقبل مجموعها التشكيك ... وإن كانت كل رواية
منها ظنية على أي حال ، وقابلة للمناقشة أحياناً . كما سمعنا مثل ذلك في أخبار
المشاهدة ، مع فرق مهم هو أن الروايات الواردة في المقام أضعاف روايات المشاهدة ،
على ما سنعرف صورة منه في الفصل الآتي .
على أن جملة منها يحتوي على التنبؤ بحوادث قد حدثت فعلاً خلال الزمان ، على ما
سنعرف ، وقد صدر التنبؤ بها قبل حدوثها بزمن طويل ... وهو شاهد على صدقها وصدق
قائلها وعلى ارتباط القائل بالله عز وجل بشكل وآخر ، فإن كل علم غيب لا بد أن
يكون مستقى من علام الغيوب .
صفحة (176)
ومعه فتكون هذه الروايات ، صالحة لملء الفجوات التاريخية التي أهملها التاريخ ،
أو لم يكون موضوعياً تجاهها. ولكنها – على أي حال – تحتوي على بعض المصاعب ، لا
بد من استعراضها ، واستعراض ما يمكن أن يكون منهجاً لتذليل تلكم المصاعب .
مصاعبها :
تتلخص المصاعب في نقطتين رئيسيتين ، من حيث أن الطعن تارة يتوجه إلى السند أي إلى
وثاقة الرواة وصدقهم . ويتوجه إلى الدلالة ، أي إلى ما نفهمه من النص المروي تارة
أخرى .
النقطة الأولى :
فميا يرجع إلى السند . ولئن كانت القاعدة العامة في الروايات هي التأكد من وثاقة
الراوي والتزامه الصدق في المقال قبل قبول روايته ... فإن الروايات التي نحن
بصددها أشد خطراً في هذا المجال ، من أشكال الروايات الأخرى. من حيث أن احتمال
الوضع والتحريف أكثر بكثير مما هو في سائر الروايات . وذلك باعتبار عدة أمور :
الأمر الأول :
احتمال الوضع . فإن الكاذب قد يخشى الوضع عندما يخاف الافتضاح ، عند وضوح عدم
مطابقة روايته للواقع . وخشية الافتضاح متوفرة – عادة – في سائر موارد الروايات ،
إلا أنها في روايات التنبؤ أقل منها في غيرها من عدة نواحٍ :
الناحية الأولى :
إن هذه الروايات تتنبأ عن حوادث مغرقة في المستقبل السحيق الذي لا يمكن أن تتأكد
من صدقه الأجيال . ومعه تبقى الرواية محتملة الصدق دهراً طويلاً جداً ، أكثر مما
يطمع به الكاذب . وفي كل جيل إن لم تحدث الحادثة الموعودة يقال : لعلها في
الأجيال القادمة ، ومعه يبقى كذب الرواي سراً غير قابل للكشف .
الناحية الثانية :
إن جملة من هذه الروايات – على ما سنسمع – ذو بيان رمزي وعبارات ذات درجة كبيرة
من السعة والإبهام ، بحيث يمكن أن تنطبق العبارة على عدة حوادث محتملة . ومعه
فيقول كل جيل : لعل المقصود هذه الحادثة ولعل المقصود حادثة
أخرى آتية ... ويبقى الكذب سراً غير قابل للكشف .
صفحة (177)
|