في مراسلة المهدي (ع) للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي قدس سره
فقد تفرد الطبرسي في الاحتجاج بذكر كتابين أرسلهما الإمام المهدي (ع) إلى الشيخ
المفيد ، يتضمنان بعض المطالب الصحيحة الواعية ، وبعض التنبؤات الرمزية على ما
سنذكر .
وينبغي أن نتحدث عن هاتين الرسالتين ضمن عدة نواحٍ :
الناحية الأولى :
فيما ينبغي أن نعامل به هاتين الرسالتين ، بحسب القواعد العامة ،من حيث سندهما
تارة ومن حيث مداليلهما أخرى. ومن هنا يقع الكلام في أمرين :
الأمر الأول :
في سند هاتين الرسالتين .
والملاحظ في هذا الصدد أن الطبرسي ذكرهما بدون سند ، ولم نجدهما في المصادر
المتأخرة عنه فضلاً عن المتقدمة عليه . فهما روايتان مرسلتان وغير قابلتين
للإثبات التاريخي من هذه الناحية .
إلا أن الذي يرجح الأخذ بهما عدة أسباب :
السبب الأول :
إرسال الطبرسي لهما إرسال المسلمات ، مما يدل أنه كان معتقداً بصحة سندهما ،
وربما يكون قد حذفه لمدى شهرته ووضوحه ، كما فعل في كثير من روايات كتابه ، وإن
كانت مصادر هذه الإسناد قد تلفت في العصور المتأخرة عنه .
وهذا السبب يعطي ظناً كافياً بصحة السنة ، وإن كان لا يبلغ حد الإثبات التاريخي .
صفحة (137)
السبب الثاني :
تضمن الروايتين ، على ما سنسمع لتوجيهات عالية وتنبؤات صادقة . بحيث لو كنا علمنا
بها قبل وقوع الحوادث المذكورة فيها ، لجزمنا بعدم إمكان صدورها إلا عن المهدي
(ع) .
السبب الثالث :
إن المصلحة العامة تقتضي صدور هذه الرسائل ، في أول زمان الغيبة الكبرى ، وذلك
لإحراز مصلحتين :
المصلحة الأولى :
إعطاء المهدي (ع) لقواعده الشعبية القواعد العامة والمفاهيم الأساسية التي ينبغي
أن يعرفها الناس وتكون سارية المفعول خلال عصر الغيبة الكبرى . بحيث لولاها لكان
من المحتمل أن يُساء التصرف في الدين ، وينغلق باب الوصول إلى الأهداف المطلوبة
في الإسلام .
ومن الطبيعي أن يكون إبلاغ هذه القواعد والمفاهيم ، موقوتاً في أول الغيبة الكبرى
، لئلا يمر زمان كبير والناس غافلون عن مثل هذه التوجيهات .
المصلحة الثانية :
إعطاء المهدي (ع) القيادة الرئيسية من الناحية الإسلامية بيد العلماء الصالحين ،
بعد أن انسحب هو منها من الناحية العملية ، وانتهى السفراء الخاصون أيضاً . فكان
أهم العلماء الصالحين في ذلك العصر ، هو الشيخ المفيد، ومن هنا وجّه الرسالة
إليه ، ليكون هو – بصفته عالماً صالحاً – المنطلق الأول لانتشار التعاليم العليا
والتوجيهات الرئيسية .
صفحة (138)
وهذا خط كان قد بدأه الإمام العسكري (ع) حين أرسل لابن بابويه رسالة
يعبر عنه بقوله : يا شيخي يا أبا الحسن. كما سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة
الصغرى(1) .
وحيث نعلم أن الأسلوب الطبيعي لإيجاد هاتين المصلحتين ، منحصر بطريق المراسلة ،
كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى ، يكون الظن عندئذ بصدور الظن أن هاتين
الروايتين يصلحان للإثبات التاريخي ، بالرغم من الإرسال الذي يتصفان به .
الأمر الثاني : في مداليل هاتين الرسالتين :
ينقسم مدلولهما – بشكل رئيسي – إلى قسمين :
القسم الأول :
التوجيهات العامة التي يذكرها الإمام لقواعده الشعبية ، وكلها صحيحة ومتينة ، ما
عدا أمور قليلة لا تخلو من المناقشة ، على ما سوف نشير . ولا يضرنا ذلك حتى لو
أنكرنا صحة هذه الأمور ، فإن إنكار البعض لا يقتضي إنكار الكل ، كما سبق أن أكدنا
عليه .
القسم الثاني :
التنبؤات بوقوع حوادث قريبة أو بعيدة بالنسبة إلى زمن صدور الرسالة . ويغلب على
عبارات هذه التنبؤات، شكل الرمزية والغموض والكلية في المدلول ، بحيث يصعب
تشخيصها علينا ، ونحن بهذا البعد الكبير ، وما لم نجده فالواقع الذي نحسه هو أن
من قرأه في ذلك الزمن فهمه حق فهمه ، وخاصة وهو يعيش الحوادث ، التي أشار إليها
المهدي في كتابه .
والرسالتان ، كما عرفنا ، غير خاصة بالشيخ المفيد ، وإن كان هو المرسل إليه ،
وإنما هي عامة لكل الخواص من المؤمنين بالمهدي (ع) . ومعه لا تكون
الحوادث المذكورة في الخطاب خاصة بالسنين التي عاشها الشيخ المفيد ، بل لعل عدداً
من الحوادث كانت سوف تحصل بعد وفاته ، وبذلك ينفتح لنا مجال واسع للتعيين
التاريخي للحوادث .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر : ص 196 منه .
صفحة (139)
الناحية الثانية :
في بيان تاريخ صدور هذين الخطابين من حيث الزمان والمكان ، ونحو ذلك .
أما الرسالة الأولى فقد وصلت في أخواخر شهر صفر عام 410 ، أي قبل ثلاثة أعوام
تقريباً من وفاة المرسل إليه الشيخ المفيد الذي توفي عام 413(1) .
والرسالة الأخرى مؤرخة في عام 412 أي قبل وفاته بعام واحد . ويكون قد مر ما يزيد
على الثمانين عاماً بقليل على وفاة الشيخ علي بن محمد السمري ،السفير الرابع ..
أي على انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى عام 326(2) .
وذكر موصل الكتاب الأول : أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز(3) .
فنعرف من ذلك أن المهدي (ع) كان في ذلك الحين في نواحي الحجاز ، وقد أرسل هذه
الرسالة من هناك بيد بعض خاصته .
والرسالة الثانية مؤرخة في غرة شوال(4) من العام المشار إليه . وقد
وصلت يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة في نفس العام(5) أي أنها
بقيت في الطريق ، إلى المرسل إليه ثلاثة أشهر إلا سبعة أيام .
وكلا الخطابين مكتوبان بإملاء المهدي (ع) وخط غيره من بعض ثقاته ، كما يظهر من
الرسالة الأولى ، وتنص عليه الرسالة الثانية . ولكنهما معاً مذيلان بأسطر قليلة
بخط الإمام نفسه ، يشهد فيها بصحة هذا الكتاب ، ويأمر الشيخ المفيد بإخفاء
الرسالة تاماً عن كل أحد . ولكن عليه أن يكتب عنها نسخة ليطلع
عليها الموثوقين من أصحابه أو يبلغه لهم شفاها ليعملوا بما فيه .
ــــــــــــــــــ
(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 313 .
(2) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 413 .
(3) الاحتجاج ، جـ2 ، ص 318 .
(4) المصدر ، ص 325 .
(5) المصدر ، 324 .
صفحة (140)
الناحية الثانية :
في بيان نبذة عن الظروف التاريخية التي صدر في غضونها هذان الخطابان . بحسب ما
دلنا عليه التاريخ الإسلامي العام . فإن ذلك مما سنحتاجه لدى الخوض في تفسير ما
ذكره الخطاب من التنبؤات .
ويمكن تلخيص الكلام في هذه الظروف التاريخية في عدة نقاط :
النقطة الأولى :
كانت البلاد الإسلامية في ذلك الحين تعاني التفكك والتفسخ المؤسف ، في أواخر عهد
البويهيين في بلاد فارس ، ورجوع أمرهم إلى القتال بين أمرائهم وقوادهم ، وبينهم
وبين الأتراك الحاكمين لخراسان وما وراء النهر ، بعد الدولة السامانية .
وكان أمر الأندلس قد آل إلى التفرق والانحلال عام 407(1) . وأما مصر
فقد استقل بها العلويون "الفاطميون" أولاد المهدوي الإفريقي . وكان أن توفي
الحاكم بأمر الله عام 411 وولي بعده ابنه الظاهر(2). وتكاد مصر أن
تكون أكثر البلاد استقراراً بأيديهم .
وأما الشمال الإفريقي ، فقد آل إلى التفرق وتنابذ الأمراء بعد أن غادره المعز
لدين الله إلى مصر عام 341(3) حيث أسس الدولة الفاطمية فيها . وكان في
الشمال الإفريقي حرب عام 406 ، تكشفت عن فوز أميرها باديس ، وخلفه بعده موته في
نفس العام ابنه المعز(4) حتى مات عام 413(5) .
ــــــــــــــــــ
(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 290 .
(2) المصدر ، ص 304 .
(3) الكامل ، جـ 6 ، ص 341 .
(4) المصدر ، جـ 7 ، ص 279 .
(5) المصدر ، ص 313 .
صفحة (141)
|