في الحياة الخاصة للمهدي (ع)
وكل ما يعود إلى شخصه عليه السلام من الأمور حال غيبته الكبرى
ويمكن الكلام عن ذلك في ضمن عدة أمور :
الأمر الأول :
هل الإمام المهدي (ع) متزوج وله ذرية أم لا .
ويمكن بيان ذلك على مستويين ، باعتبار ما تقتضيه القواعد العامة ، أولاً ، وما
تقتضيه الأخبار الخاصة ثانياً .
المستوى الأول : فيما تقتضيه القواعد العامة المتوفرة لدينا .
وهذا مما يختلف حاله على اختلاف الأطروحتين الرئيسيتين اللتين عرضناهما فيما سبق
.
أما الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص ، فهي – بغض النظر عن الأخبار الخاصة
الآتية – تقتضي أن لا يكون المهدي متزوجاً ، وأن يبقى غير متزوج طيلة غيبته . ولا
غرابة في ذلك ، فإن كل ما ينافي غيبته ويعرضه للخطر يكون وجوده غير جائز ، فيكون
زواجه غير جائز ، لوضوح منافاته مع غيبته ولزومه لانكشاف أمره . إذ مع خفاء شخصه
لا يمكنه الزواج بطبيعة الحال عادة . أما مع ظهوره وانكشاف أمره ، فهو المحذور
الذي يجب تجنبه ويخل بالغرض الأسمى من وجوده .
صفحة (61)
وأما افتراض أنه ينكشف لزوجته فقط ، بحيث تراه وتخالطة من دون كل الناس ، فهو وإن
كان ممكناً عقلاً، إلا إنه بعيداً كل البعد عن التطبيق العملي بحيث نقطع بعدم
إمكانه . فإن هذه الزوجة يجب أن تكون قبل زاوجها من خاصة الخاصة المأمونين
الموثوقين إلى أعلى الدرجات ، بحيث لا يكون في مقابلتها إياه واطلاعها على حقيقته
أي خطر . ومثل هذه المرأة تكاد تكون منعدمة بين النساء ، إن لم تكون معدومة فعلاً
... فضلاً عن أن يجد في كل جيل امرأة من هذا القبيل .
إذن فبقاؤه طيلة غيبته أو في الأعم الأغلب منها بدون زواج ، ضروري لحفظه وسلامته
إلى يوم ظهوره الموعود، فيكون ذلك متعيناً عليه .. لو أخذنا بالأطروحة الأولى .
وأما على الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، فكل هذا الكلام الذي رأيناه
يكون بدون موضوع . فإن المهدي (ع) وإن كان من المتعذر عليه إيجاد الزواج بصفته
الحقيقية ، لما قلناه من عدم وجود المرأة الخاصة المأمونة بالنحو المطلوب . ولكن
زواجه بصفته فردا ًعادياً في المجتمع ، أو بشخصيته الثانية ، ممكن ومن أيسر
الأمور ، بحيث لا تطلع الزوجة على حقيقته طول عمرها . فإن بدا التشكيك يغزو ذهن
المرأة في بعض تصرفاته أو عدم ظهور الكبر عليه بمرور الزمان ... أمكن للمهدي (ع)
أن يخطط تخطيطاً بسيطاً لطلاقها وإبعاجها عن نفسه ، أو مغادرة المدينة التي كان
فيها إلى مكانٍ آخر ، حيث يعيش ردحاً آخر من الزمن ، وقد يتزوج مرة أخرى .. وهكذا
.
وإذا أمكن زواجه ، أمكن القول بتحققه ، وإن الإمام المهدي عليه السلام متزوج في
غيبته الكبرى بالفعل . وذلك لأن فيه تطبيقاً للسنة المؤكدة في الإسلام والأوامر
الكثيرة بالزواج والحث العظيم عليه والنهي عن تركه ، والمهدي أولى من يتبع السنة
الإسلامية . وبخاصة إذا قلنا بأن المعصوم لا يترك المستحب ولا يفعل المكروه مهما
أمكن ، والتزمنا بعصمة المهدي (ع) كما هو الصحيح . فيتعين أن يكون متزوجاً ، بعد
أن توصلنا إلى إمكان زواجه وعدم منافاته مع احتجابه .
وإذا سرنا مع هذا التصور ، أمكن أن نتصور له في كل جيل ، أو في أكثر الأجيال ذرية
متجددة تتكاثر بمرور الزمن، ولكنها تجهل بالمرة بأنها من نسل الإمام المهدي (ع)
، لأن لا يكشف حقيقته أمام زوجته وأولاده الصلبيين، فكيف
بالأجيال المتأخرة من ذريته .
صفحة (62)
إلا أن أمامنا شيئاً واحداً يحول بيننا وين التوسع في هذا الافتراض ، إن لم يكن
برهاناً على انتفاء الذرية أصلاً . وهو : إن وجود الذرية ملازم عادة لإنكشاف أمره
والاطلاع على حقيقته . فإن السنين القليلة بل العشرين والثلاثين منها قد تمضي مع
جهل زوجته وأولاده بحقيقته ، كما أنه يمكن التخلص من الزوجة حين يبدو عليها بوادر
الالتفات . ولكن كيف يمكن التخلص من الذرية ؟! فإنهم أو بعضهم – على أقل تقدير –
يكونون أحرص الناس على مشاهدة أبيهم وملاحقته أينما ذهب . ومعه يكون دائماً تحت
رقابتهم ومشاهدتهم . ومن ثم لا يمكنه الحفاظ على سره العميق زماناً مترامياً
طويلاً . فإنهم بعد مضي الخمسين أو السبعين عاماً ، سوف يلاحظون بكل وضوع عدم
ظهور امارات المشيب والشيخوخة على والدهم ، وأنه بقي شاباً على شكله الأول . ومن
ثم يحتملون على الأقل كونه هو المهدي (ع) ، أو أنه فرد شاذ لا بد من الفحص عنه
والتأكذ من حقيقته .. وبالفحص ومداومة السؤال ، لا بد أن يتوصلوا إلى الاحتمال
على أقل تقدير . وهذا مناف مع غيبته وكتمان أمره . وأما لو بقيت ذريته تراقبه ،
ولو بشخصيته الثانية ، عدة أجيال ، فيكون انكشاف أمره بمقدار من الوضوح .
وأما افتراض أنه يعيش مع زوجته وأولاده ، ويظهر عليه المشيب فعلاً ، ثم أنه يختفي
ويتحول شكله إلى الشباب تارة أخرى عن طريق المعجزة ، لكي يستأنف حياة زوجية جديدة
.. وهكذا .. فهو افتراض عاطل ترد عليه عدة اعتراضات أهمها منافاته مع قانون
المعجزات ، فإن زواج المهدي ووجود الذرية لديه لا يمت إلى الهداية الإلهية بصلة ،
لكي يمكن أن تقوم المعجزة من أجله .
إذن فلا بد من الالتزام بعدم وجود الذرية للمهدي (ع) بالنحو المنافي لغيبته . أما
بانعدام الذرية على الإطلاق ، أو بوجود القليل من الذرية التي تجهل حال نسبها على
الإطلاق ، كما يجهله الآخرون ، ولعلنا نصادف بعضاً منهم ، ولكن إثبات نسبه في
عداد المستحيل .
فالمتحصل من القواعد العامة ، هو أن المظنون أن يكون الإمام المهدي (ع) متزوجاً
بدون ذرية . لا لنقص فيه بل ولا في زوجته ، بل لإشاءة الله تعالى ذلك ،
أو تعمد المهدي (ع) له ، احتفاظاً بسره ومحافظة على أمره .
صفحة (63)
المستوى الثاني : فيما تدل عليه الأخبار من وجود الزوجة والأولاد للمهدي (ع) .
ونحن نواجه بهذا الصدد شكلين أو طائفتين من الأخبار :
الشكل الأول :
الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له، بنحو مجمل من حيث كون ذلك حاصلاً في
زمان الغيبة أو بعد الظهور، ومن حيث كونه بعنوانه الواقعي أو بشخصيته الثانية .
وسنعرف فيما يأتي أنه لا بد من تخصيص هذه الأخبار ، فيما بعد الظهور ، أو في حال
الغيبة بشكل لا يكون سبباً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .
الشكل الثاني :
الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له فيغيبته الكبرى . وهي ثلاث روايات :
الأولى : ما رواه الحاج النوري قدس سره في النجم الثاقب عن كتاب الغيبة للشيخ
الطوس وكتاب الغيبة للنعماني . قال : رويا بطريق معتبر عن المفضل بن عمر ، قال :
سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، إحداهما تطول
حتى يقول بعضهم : مات . وبعضهم يقول : قتل . وبعضهم يقول : ذهب . فلا يبقى على
أمره من أصحابه إلا نفر يسير لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره ، إلا
المولى الذي يلي أمره(1) .
الثانية : رواية كمال الدين الإنباري ، التي ينذكر مضمونها في الأمر الرابع الآتي(2)
.
الثالثة : رواية زين الدين المازندراني ، وهي مشابهة للرواية الثانية ، من عدة
نواحٍ ، على ما سنرى في الفصل الآتي(3) .
ــــــــــــــــــ
(1) النجم الثاقب ، ص 224 وغيبة الشيخ ، ص 102 . (2) النجم الثاقب ، ص 217 .
(3) المصدر ، ص 284 ، وانظر البحار ص .......
صفحة (64)
إلا أن شيئاً من هذه الروايات ، لا يصح الاستدلال به ، بمعنى أنه ، لو تمت من
ناحية السند ، لا تكاد تثبت أكثر وأوسع مما اقتضته القواعد العامة التي عرفناها
على المستوى الأولي .
أما الرواية الأولى ، فلا تصح لعدة وجوه :
الوجه الأول :
أنه لا دليل على وجود ذكر الولد في هذه الرواية . فإن كلا من الشيخ الطوسي والشيخ
النعماني يرويانها بنص واحد، إلا أن الشيخ الطوسي قال : لا يطلع على موضعه أحد
من ولده ولا غيره(1) . والشيخ النعماني روى : من ولي ولا غيره(2)
. ومع تهافت نسخ الرواية فيما هو محل الشاهد ، لا يمكن المصير إلى الاستدلال بها
.
الوجه الثاني :
أنه على تقدير الاعتراف بوجود كلمة الولد في الرواية ، فإنها لا تكاد تدل على أمر
زائد على ما اقتضته القواعد بناء على الأطروحة الثانية ، فإنه يمكن أن يكون
للإمام المهدي (ع) ذرية لا تعرف حقيقة أبيها ، بمقدار لا يصل الأمر إلى انكشاف
أمره وذيوع سره ، كما سبق أن عرفنا . أو يكون المهدي (ع) قد حصل في بعض الأجيال ،
على زوجة موثوقة عرفت حقيقته وصانت سره وسترته عن ذريته .
أما وجود ولد أو ذرية يعاشرونه ويعرفونه ، فهو منفي بنص الرواية ، كما هو منفي
بمقتضى القواعد .
ثالثا : أننا نتحمل على الأقل ، أن المراد بقوله : لا يطلع على موضوعه أحد من
ولده ولا غيره .. المبالغة في بيان زيادة الخفاء . بمعنى أنه حتى لو كان له ولد
أطلع على حقيقته فضلاً عن غير الولد . وهذا بمجرده لا يكون دليلاً على وجود الولد
فعلاً ، كما هو واضح . واحتمال هذا المعنى يكفي لإسقاط الاستدلال بالرواية ، فإنه
إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال .
ـــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ، ص 102 .
(2) غيبة النعماني ، ص 89 .
صفحة (65)
وأما الروايتان الأخيرتان ، التي سنسمعهما ، فالمقدار المشترك من مدلوليهما ، هو
أن المهدي (ع) ساكن خلال غيبته الكبرى في بعض الجزر المجهولة من البحر الأبيض
المتوسط .. متزوج وله ذرية . وقد أسس هناك مجتمعاً إسلامياً نموذجياً مكوناً من
أولاده والأخيار من أتباعهم وأصحابهم . وهو يعيش في ذلك المجتمع محتجباً ، في
الوقت الذي يتولى الرئاسة العامة أولاده وذريته .
وسيأتي التعرض إلى تفاصيل المضمون بمقدار الحاجة ، مع إيضاح نقاط الضعف فيه .
ويكفينا في حدود محل الاستدلال المناقشة من ناحيتين :
أولاً : إن كلا الروايتين لا تكادان تصحان أساساً ، لابتنائهما على الأساس الذي
تقوم عليه الأطروحة الأولى، كما سنوضحه عند التعرض إلى تفاصيلها . وهو أساس سبق
أن أقمنا البرهان على بطلانه .
ثانياً : أنه على تقدير صحتهما ، فهما لا يدلان على شيء زائد مما اقتضته القواعد
العامة . فإن غاية ما تدلان عليه هو افتراض أن الإمام المهدي (ع) قد وجد في بعض
الأجيال إمرأة صالحة موثوقة عرفته وسترت أمره وحجبته عن ذريته . وقد علم ذريته
بانتسابهم إليه من دون أن يروه أو يعرفوا مكانه . وبالجملة يكفي في صدق هاتين
الروايتين وقوع الزواج للمهدي (ع) مرة واحدة خلال الأجيال ، وهو مما لم تنفه
القواعد العامة ، كما هو معلوم .
إذن فلم نجد من الروايات ، ما يصلح للاستدلال به على مضمون زائد على ما عرفناه في
القواعد العامة .
الأمر الثاني :
في مكان المهدي (ع) في غيبته الكبرى .
سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) ، أن المهدي (ع) قال لمحمد بن
إبراهيم بن مهزيار حين قابله: يا ابن المازيار ! أبي أبو محمد عهد إلي أن لا
أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم
. وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ، ومن البلاد إلا عفرها ... الخ كلامه.
ــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 582 وغيرها .
صفحة (66)
|